ماكرون يلعب «الورقة الصينية» مع واشنطن…
خضر سعاده خرّوبي
كما شاءت الأقدار أن تكون فرنسا، الدولة الغربية الأولى التي تعترف بجمهورية الصين الشعبية، جاء كذلك الاعتراف الغربي الرسمي الأوّل بالصين كقوة عظمى، أقله لناحية «الأجندة الصينية حول المناخ والتنوّع البيئي»، على لسان الديبلوماسية الفرنسية غداة إبرام «شراكة استراتيجية» بين الطرفين. فزيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى الدولة الآسيوية الكبرى، قبل أيام، تأتي ضمن سلسلة زيارات رسمية عكف عليها قادة وزعماء أوروبيون في السنوات الأخيرة، وهناك من بينهم المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل ورئيسة وزراء بريطانيا تيريزا ماي، كما أنها في الوقت عينه تأتي استكمالاً لمفاعيل إقرار سلفه فرنسوا هولاند بالشراكة التي لا غنى عنها مع بكين على أكثر من صعيد، وتحمل في طياتها فكرة جنينية تختمر في عقل ماكرون حول «النظام العالمي الجديد».
لم يعد الأمر يحتمل تأجيلاً، أو إنكاراً لواقع القوة الصينية الصاعدة نحو صدارة الهرمية الدولية. فالرئيس الأميركي دونالد ترامب الذي يحشد حروبه على كافة الجبهات السياسية والاقتصادية في وجه الحلفاء والخصوم على حدّ سواء، جعل نظيره الفرنسي يفكر في سبل «الانفكاك عن الحليف القديم»، وإعادة التموضع وتدشين «انعطافة أوروبية باتجاه آسيا»، وصلت به إلى حدّ التفكير في إقامة حلف ثلاثي فرنسي أوروبي – صيني. ما عبّر عنه ماكرون العام الفائت، ربما يعكس في جانب منه ما تهمس به بعض الدوائر الأميركية في الوقت الراهن حول لحظة دولية فارقة تشهد «جسر هوّة الخلافات» بين القوى الدولية الأساسية الموقعة على خلفية سلوك ترامب حيال عدة قضايا، لعلّ أبرزها «الاتفاق النووي الإيراني» عقب انسحاب واشنطن منه، ذلك أنّ الأوروبيين ربما يرغبون حالياً في البحث عن توافقات حول ترتيبات سياسية أو أمنية جديدة مع روسيا تحفظ لهم شيئاً من «خبط عشواء الأداء الترامبي»، في وقت تعمد فيه كلّ من روسيا والصين، رغم وجود بعض أوجه التباين في المصالح الاستراتيجية والقدرات الاقتصادية، إلى تنسيق سياساتهما، فضلاً عن أنه يحمل ثلاثة عناصر أساسية في المشهد الدولي الراهن.
يتمثل العنصر الأول، في «تهلهل» الالتزامات الأميركية تجاه حلفائها الدوليين، وصعود شعار «أميركا أولاً»، في ظلّ إصرار رئيسها على التشكيك في جدوى وفعالية «حلف الناتو»، وفرضه تدابير حمائية على بعض السلع المورّدة من دول «الاتحاد الأوروبي» إلى الولايات المتحدة، فضلاً عن دخوله في صدامات «تويترية» مع عدد من القادة الأوروبيين، من بينهم الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون على خلفية الصراع السياسي والتجاري المستجدّ بين باريس وواشنطن، وصولاً إلى انسحاب إدارة دونالد ترامب من «الاتفاق النووي الإيراني»، وكذلك «اتفاقية باريس للمناخ»، الموقعة في العام 2015 من قبل إدارة الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما، الأمر الذي أعقبته تحذيرات مسؤولين أميركيين سابقين من مغبة وقوع واشنطن في «عزلة دولية»، ومن أنّ إسناد ترامب ملفات سياسية حساسة لبعض المقرّبين، بخاصة صهره جاريد كوشنر، تشكل «تهديداً للسياسة الخارجية للولايات المتحدة». من هنا، يتساءل بعض المحللين الأميركيين حول ما إذا كانت إدارة ترامب تهتمّ بـ «الصورة الدولية» لبلاده، ذلك أنه لطالما كانت «السمعة الأميركية»، لا سيما في أعين الدول الحليفة، تستند حول ما تقوم به واشنطن، وما تتمنع عن القيام به على المسرح العالمي. فالموقف المعلن لترامب حول حلف «الناتو»، ودول «الاتحاد الأوروبي»، إضافة إلى خروجه من المعاهدة الأميركية الروسية لحظر الصواريخ المتوسطة المدى، معناه أنّ «أوروبا ستكون بشكل ما عارية بالمقارنة مع هاتين القوتين الكبريين»، على حدّ تعبير ماكرون نفسه. لعلّ هذا ما دفع مجلة «نيوزويك» الأميركية إلى الاستنتاج بأنّ نهج ترامب المشار إليه يقرّبنا على نحو أكبر من لحظة قريبة، يستخلص فيها حلفاء الولايات المتحدة أنّ «الحكومة الأميركية نفسها، وليس روسيا أو الجهاديين، تشكل أكبر تهديد أحادي للحضارة الغربية»، ومن أنّ «الدول الأخرى ستتوثب إلى الأمام من أجل ملء جزء من الأدوار القيادية الشاغرة التي تخلت عنها الولايات المتحدة».
في مقال جاء تحت عنوان: «على وقع انسحاب الولايات المتحدة من العالم، يتطلع الأوروبيون نحو وجهات أخرى»، يشدّد الباحث في معهد «شاتام هاوس»، ليسلي فنجاموري، على أنّ «أوروبا فشلت حتى الآن في خطب ودّ أميركا ترامب»، مؤكداً أنّ زعماء الدول الأوروبية «اعتمدوا تكتيكات متنوّعة» لهذا الغرض، تراوحت بين «الاندفاع صوب واشنطن لتوفير ميزة المبادرة الأولى»، مثلما فعلت رئيسة وزراء بريطانيا تيريزا ماي المتجهة نحو خروج «غير مأمون العواقب» من التكتل الأوروبي، وبين «الإبقاء على مسافة صحية، على غرار ما فعلت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، وبين خيار «المزيج بين الاثنين، ولكن على أرض ملعبه» كما في حالة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون. ما سبق، وإن كان يحمل إيحاءات أميركية ضمنية تحث على ضرورة تعزيز دور دول «الاتحاد الأوروبي» في تولي شؤون القارة من باب تقاسم أعباء «الناتو»، فإنه يتماشى مع «نهج أحادي» سلكته إدارة «محافظة» أخرى، إبان عهد الرئيس الأسبق جورج دبليو بوش في العام 2002، قبيل اجتياح العراق على نحو أثمر تحالفاً بين «فرنسا شيراك»، و»ألمانيا شرودر» حينذاك. اليوم، يتسع المجال أيضاً أمام سرب من الهواجس الأوروبية الكامنة بشأن ملفات الوحدة والأمن والسياسة الخارجية في «القارة العجوز»، بما يتيح لزعماء دول الشمال الأوروبي المحسوب تاريخياً على واشنطن، التفكير في «بدائل» سياسية واقتصادية بالجملة، يتمثل أحدها في خيار الانفتاح على فصل جديد من العلاقات مع «المارد الآسيوي» المتمثل في الصين، فيما يحمل الآخر بعداً يتصل بمقاربة جديدة في ما يخص العلاقات الأوروبية الروسية، مع تبلور مقاربة جديدة للرئيس ماكرون على هذا الصعيد في الأشهر الأخيرة، تحمل نظرة جديدة إلى موسكو، تزيح جانباً من إرث تاريخي قائم على «عدم الثقة» بين الجانبين، عطفاً على توقيع اتفاق تجاري بين «الاتحاد الأوروبي» واليابان في العام 2017 همّش «الدور القيادي التجاري» للولايات المتحدة، باعتباره قلّص من قدرتها على التحكم بمعايير عالمية للمنتجات.
يحمل العنصر الثاني مدلولات عن توجه أوروبي جديد، فرنسي – ألماني تحديداً، في مقاربة النظام الدولي الجديد، المتشكل في ضوء منافسة استراتيجية بين الولايات المتحدة والصين. ومن منظور الرئيس ماكرون، صاحب النزعة «الديغولية»، فإنّ لحظة الاعتراف بالمتغيّرات الدولية قد حانت. ففي أواخر آب/ أغسطس الماضي، وإثر زيارة الرئيس الروسي لباريس، أسهب ماكرون في شرح الحقائق الجديدة لعالمنا أمام سفراء بلاده حول العالم، معترفاً بأفول الغرب، لحساب قوى صاعدة، أبرزها الصين، وروسيا، ومنطلقاً من قواعد بديهية براغماتية تحتّم توثيق العلاقات مع روسيا، واجتذابها إلى أوروبا ضمن فلك أوراسي واحد في زمن تبدّل الأولويات الأميركية، من جهة، وترى في خيار الانفتاح على الصين حقيقة لا يمكن تجنّب تجرّع كأسها المرة على الأوروبيين، من جهة ثانية. في هذا السياق، أقدمت فرنسا وألمانيا مطلع العام الحالي، على توقيع معاهدة «آخن» بما يتيح تشكيل «جيش أوروبي» موحد. هذا التوجه يشهد عليه كلام ماكرون لدى استضافته في معرض شنغهاي السنوي للواردات، والذي ردّده على مسامع مديري شركات فرنسية وألمانية مشاركة في المعرض، حين دعا الأوروبيين إلى التحدث بصوت واحد، مراهناً على «الورقة الألمانية – الفرنسية» للتعامل مع الصعود الصيني، والانكفاء الأميركي في «إطار دولي يزداد صعوبة»
أما العنصر الثالث، فهو يأتي كنتيجة للعاملين الأولين، ذلك أنه يرتبط بالقوة المتنامية لبكين، من جهة، وبالفرص التي باتت توفرها سياسات ترامب في العالم بالنسبة لبكين من أجل تعزيز نفوذها، وتوسيع شراكاتها الدولية داخل «المعسكر الغربي»، من جهة ثانية. وما تظهره القيادة الصينية الجديدة، في عهد الرئيس تشي جين بينغ، على مستوى السياسة الخارجية، يضيف المزيد إلى رصيد بكين لما تظهره «مناقبية دولية» لناحية التعامل مع الملفات الحساسة، سواء تلك الأمنية المتصلة بالبرنامج النووي الإيراني، أو الأزمة الكورية الشمالية، أو الاقتصادية المتعلقة بالموقف من التوجهات الإدارة الأميركية المعادية لـ «ميكانيزمات» النظام الاقتصادي العالمي.
ختاماً، ورغم «الفواصل الايديولوجية والاستراتيجية» بين باريس، وبكين حيال عدد من الملفات أبرزها قضايا حقوق الإنسان، والنزاع في بحر الصين الجنوبي، تنظر الديبلوماسية الصينية بعين الاهتمام إلى الحوار الفرنسي – الصيني، في وقت يشهد فيه العالم كثيراً من الأزمات المتتالية، وتصاعداً في وتيرة الحمائية الجمركية، ونهج الأحادية من جانب واشنطن، لا سيما وأنهما أبرز المتضرّرين من «ديبلوماسية تويتر» التي يعتمدها الرئيس الأميركي في مقاربته لسياسات بلاده. ومع ذلك، ينظر محللون إلى أنّ بكين تدرك جيداً محدودية قدرة باريس على الذهاب بعيداً في خيار «التوجه شرقاً»، فيما تلتفت باريس إلى ثقل واشنطن التجاري والاستراتيجي في عقل الحكام الصينيين، ما يجعل الطرفين يلتقيان مرحلياً على مجابهة الإدارة الأميركية، دون أن يختلفا على الحاجة إلى استقرار علاقتهما بالولايات المتحدة على المدى البعيد على نحو يبعد «الطابع الاستعدائي» عن التكتل الصيني الأوروبي – الفرنسي الذي ينشده ماكرون.