الثورات نتيجة لتداعيات الرأسمالية والاقتصاد الريعي
سماهر الخطيب
تدحرجت العجلة الاقتصادية في السنوات الأخيرة خلال دورانها إنما بلا قاعدة بعد أن تحلحلت تلك «العزقات» التي كانت تُمسك بها من جانبيها، والتي تتمثل بالليبرالية والرأسمالية ويمتن إمساكها بـ «برغي» العولمة على مبدأ القرية العالمية والسوق المفتوح الذي بات فيه كل شيء مُباحاً، بل أكثر بات مشاعاً للجميع بلا رادع ولا كابح.. فانفجرت الأوضاع الاقتصادية من الولايات المتحدة الأميركية إلى أوروبا فآسيا والأكثر تأثراً تلك «العربية».. كأنما المشهد بات أليفاً بتلك الأزمة الاقتصادية التي اندلعت عام 1929 إنما بصورة تلك الأزمة في العقد الأول من الألفية الثانية وما سمّيت بأزمة الرهن العقاري عام 2007- 2008.. والتي جعلت من العالم أجمع يتأثر بها كما السبحة الواحدة التي قطع خيطها فتدحرجت حباتها الواحدة تلو الأخرى لتعود الولايات المتحدة الأميركية ومن بعدها الدول المتحكمة بالنظام الدولي إلى اتخاذ خطوات إنقاذية لتدارك الوضع، ولربما عقد الخيط وإعادة السبحة لوضعها الطبيعي.. إنما كانت إجراءات آنية وضربات كهربائية إنعاشية بلا خطة استشفائية ليعود العقد الثاني من الألفية الثانية ويسجل على قادة العالم ومنظري الليبرالية والرأسمالية واقتصاد السوق فشل أفكارهم وسياساتهم الفردية والتي لا شك قائمة على الفرد تحت عنوان الحرية الفردية، إنما ولكونها عاملت الشركات كأشخاص معنويين في أفكارها الاقتصادية أضافت على تلك الشركات صفة المتوحّشة وجعلتها تتحكّم بالسياسات المالية وكذلك المجتمعية تحت ستار السوق المفتوح أو حرية السوق والحرية الفردية ليتضح مع ما برز من ثورات ومطالب مجتمعيّة اجتاحت العالم من شماله إلى جنوبه بأنّ هذا العالم بات محكوماً بسلطان الشركات وبسلطان المال مغلفاً بالحرية الفردية والمساواة التي نادت بها الثورة الفرنسية وجعلت منها مبادئ رسخت في ديباجة الأمم المتحدة إنما ولسوء الحظ باتت الطبقية هي المسيطرة وحصرت الثروات بأيدي فئة قليلة على حساب الأكثرية الساحقة والتي سُحقت بسلطة المال..
وصلب المشكلة يكمن في استبداد الفردية بالرأسماليين الذي أدّى إلى إخضاع الدول ورجالاتها والسيطرة على مؤسساتها وسائر نظمها وسلطاتها، حتى صار التشريع يسنّ ويُشترى بالمال، وكذلك الوزراء والمدراء العامون، وحتى رجال القضاء والقانون.
فمنذ أن ظهرت هذه النزعة الفردية واستبدّت بأصحابها، والعالم منقسم بين الدول الرأسمالية الكبرى، وشركاتها الضخمة العملاقة والمتوحشة وكذلك اتحادات الرأسماليين فيها.
كما عزز احتكار الأموال وتمركز الإنتاج في دول دون أخرى، سيطرة وتحكم حفنة من الناس على العالم وصارت تلك الحفنة تعطي وتُحرم، تبيع وتشتري، وتعلن متى شاءت حروباً وتصنع سلماً.
كما ربطت جميع البنوك الدولية والأممية والإقليمية والوطنية وكذلك المحلية، ببعضها بعضاً على أسس نفعية، جميعها تصبّ في خزائن من هم رأسماليون فرديون.
وصار القائمون عليها يلعبون أدواراً فكرية وثقافية وسياسية واقتصادية واجتماعية إلى أن نكّهوها بخلطة «العولمة» التي استنزفت الجيوب وأفقرت الأمم والشعوب لينعم بخيراتها من لا يعرف من الحياة إلا قيمها المادية لا غير.
فمنذ أن طغت الرأسمالية وأحكمت سيطرتها على البشرية وعلى الأسواق العالمية والأمور تتراكم وتتفاقم يوماً بعد يوم إلى أن بلغت في تخمتها الذروة، لتتفجّر على صورة أزمة مالية عالمية ربما تجرّ بعد إفلاس وتضخم وركود وكساد حرباً عالمية، قد لا تبقي ولا تَذَر. وكلّ هذا ما كان ليكون لولا النظام الرأسمالي الذي لا يقدّس أصحابه إلا المال والثروة وحسب.
ولا شك في أنّ النظام الليبرالي حقق نجاحات مهمة للبشرية، لكنه أخفق في أمور أساس وجوهرية مثل المساواة، فأصبح التفاوت هائلاً في الدخل والثروات بين أقلية ضئيلة للغاية وأغلبية ساحقة. ويعود السبب إلى النظام الليبرالي الذي تسبّب في تكديس ثروات البعض على حساب البعض الآخر، فحمل هذا النظام في داخله أسباب فشله متلاصقة مع أسباب نجاحاته ليصل إلى زواله الحتمي.
ولربما كانت نظرية فوكوياما الشهيرة بـ»نهاية التاريخ» بعد أن شهد العالم هزيمة الشيوعية وانهيار الاتحاد السوفياتي ظناً منه أنّ الرأسمالية هي النهاية الحتمية للبشرية، سنشهد مثيلها إذا ما عرفنا أنّ النظام الليبرالي وعموده الاقتصادي «الرأسمالية»، ليس سوى أيديولوجية، وأنه ليس قدر البشرية، وبالتالي لا بدّ وأن نشهد أيديولوجية جديدة تنقذ العالم من ثغرات الليبرالية القاتلة..
واليوم كأننا نشهد موت الليبرالية كما شهدنا نعش الشيوعية. فالأطراف بدأت تنهار في شرق أوروبا، والأنموذج الأميركي الذي خُيّل للبعض كالفراشة الساطعة الألوان لم يعُد يجذب أحداً، حتى في أوروبا الغربية مثل ألمانيا وكذلك فرنسا.. حتى إذا صوّبنا نظرنا تجاه تركيا، نراها اليوم قد انحرفت عن مسار الليبرالية بغض النظر عن ديمقراطيتها، إنما باتت أقلّ توجهاً نحو الغرب وأقل علمانية وأكثر عصبية من ذي قبل.. وليس بالشيء الجديد أن تشهد تلك الأنظمة والشعوب ثورات وحراكات مطلبية ومعيشية طالما أن المنطقة والعالم ككل يشهد تحوّلاً في نظامه الدولي. والمعروف أنّ أيّ تحوّل في النظام الدولي يشهد تحولاً في الإيديولوجيات التي تحكم هذا النظام. فالليبرالية الجديدة التي بدأت ملامح انهيارها مع ملامح انهيار القطب الواحد قد مرّت بمراحل تطوّر حتى وصلت إلى ما هي عليه، كما أنّ استهتار الولايات المتحدة بنظامها المالي هو الذي أدّى إلى الأزمة المالية التي يعاني منها العالم اليوم..
وبالتالي لا بدّ من تطوّر هذه المنظومة الأيديولوجية وظهور فكر يتطابق مع المرحلة الجديدة للنظام الدولي الذي لا يتعدّى الآن مرحلة الفوضى إذ لا يمكن تسميته بنظام القطب الواحد ولم يصل مرحلة التعددية القطبية رغم ظهور تكتلات عدة ودول تسجل حضورها على الساحة العالمية إنما لا تتعدّى التسجيل ولم تثبّت بعد الحضور، فكلّ حضور بحاجة لأيديولوجية تحكم وترافق أي مشروع يقدّم على أساسه يغير هذا النظام أو هذه المنظومة. فإذا ما عدنا إلى نظام القطبين كان هناك صراع بين أيديولوجيتين رأسمالية واشتراكية وقبل ذلك كان هناك نظام الإمبراطوريات…
ما نقصد قوله هنا إننا نشهد مرحلة جديدة تصبّ بتداعياتها على الجميع باعتباره جزءاً من الكلّ، إنما لن تكون تلك الرأسمالية، وذاك السوق المفتوح هو الحلّ بعد أن ثبت فشله واصطدامه بأمواج الأغلبية الساحقة التي باتت تشعر وكأنها من طبقة العبيد. فالحلّ لا بدّ أن يكون في إيجاد مقوّمات جديدة تقع على عاتق ما يسمّونه في لبنان بـ»التكنوقراط» أيّ المختصين، لذلك فالأولوية للمنظّرين الاقتصاديين والمفكرين أمثال أولئك الواضعين الأسس الفلسفية والأنثروبولوجية لليبرالية، التي تمتدّ إلى توماس هوبز وجون لوك الذي يُعدّ الأب الروحي لليبرالية، وكذلك توماس جيفرسون وجون ديوي وغيرهم، ممن قادت أفكارهم إلى قيام السوق الحرة، والحكومة المركزية الكبيرة للعمل معاً لتحرير الأفراد من بعضهم، بل حتى تحريرهم من طبيعتهم الخاصة، إلا أنّ تطور المجتمعات قاد بدوره إلى فقدان الفضيلة وإشاعة القلق الدائم خاصة بالعلاقة مع التكنولوجيا، والشعور بالعجز والتغرّب تجاه حكم الذات، وسلسلة من الكوارث المالية والبيئية والوشيكة..