رتاج* بلا حدود
محمد إقبال حرب
منذ فجر التاريخ كانت بحيرة الوجود وطناً يتوضأ على ضفافه نُسّاك الصوامع المترامية عبر الأصقاع لتزكية رحلة حجّهم إلى غابة الأرز تيمناً بآلهة الهلال الخصيب. كما كانت البحيرة قبلة النذور وكعبة الجياع، ملاذ المظلومين والعقماء ومشعل طالبي العدالة والمعرفة. من مائها يتوضأون، ومن خشب أرزها يتباركون.
ترامت إلى مسمع جلجامش قدسية المكان فشدّ الرحال إلى جبال الأرز العصيّة يرافقه صديق شديد المراس بحثاً عن الخلود.
اقتحما الغابة وقتلا حارسها همبابا. سرقا خشب الأرز المقدس من عقر دار الآلهة بعدما خاب أمل جلجامش باستحواذ ثمرة الخلود. بعد هذا الاقتحام السافر لحرمة جبال الأرز تساقطت الآلهة صرعى فوق دوالي البقاع، وجزّ أرباب الحروب رقاباً عند روافد الأنهار، فتكالب الغزاة عبر العصور، قاتلين، سالبين، ناهبين.
بكى الأقحوان ومات النحل على بتلات المنتور فهاجرت الطيور بحثاً عن أرض لم تُسلَب خيراتها بعد. ارتعد الشرفاء خوفاً على كرامتهم فدفنوا بذورها عند أصل غابة الأرز خوفاً من أن يدوسها طاغٍ أو أن يذلّها خائن.
تكالب الزمن وطغى الظلم عند أعشاش الفساد في بؤر طغيان رايتها الجور والتعسّف والاضطهاد. تماسك أبناء الوطن بمؤازرة غابة الأرز لحراسة ما تبقى من مقدّسات ومناقب إنسانية. لكن بشاعة الغزاة غطّت البحيرة بمزن داكنة لم تمطر إلا فساداً. وسقط الدهر في حقبة العهر فكفر النُسّاك بآلهتهم يوم سقطت معابدهم بسهام آلهة أُخَر دانوا لها جبناً وخنوعاً. خرج المنافقون بعدها حاملين ألوية الغرباء حتى تهاوت قدسية البحيرة وخمدت غابة الأرز كأنما هجرها الثلج المقدّس.
شكّلت أكوام الفساد والنفايات مع مخلّفات الضمير حاجزاً يصدُّ صيادي الأمل حتى أدركهم الجوع فغدوا خماصاً كما ذهبوا جياعاً رغم خوضهم غمار الموت في سبيل لقمة تسدّ فجوات كرامتهم.
الجوع كافر
الظلم كافر
وأنين الأطفال ثالث الأثافي
برمجة الجهل أشدّ عُهراً
وسلب الإنسانية أعظم كُفراً
ثُغاء كاليجولا، نحر الشرفاء حتى اسودّ النهار فعشي من كان بصيراً. لكن جذوة الأصالة أبت عليهم الثغاء، ورفضت الموت على ضفاف بحيرة أضحت آسنة بمخلفات البشر تراكمت على بقايا مجد تلاشى فاندثر.
فاض الكيل حتى ضاق البركان بما فيه فانفجر بمن سكنه من بشر. تمرّدوا، حملوا صنانيرهم، تمنطقوا بخطاطيفهم وساروا في رحلة بقاء عبر وعثاء الحَراك إلى بحيرة الأمل يكابدون شطآنها المكدّسة ببقايا الأخلاق العفنة.
حركة في القاع تماوجت على وقع الخطى فبعث في جذوة الأجداد روحاً. روح غمرت أهل الحَراك كموجة كونيّة لا يصدّها رادع فهب نسيم الأمل في الأرواح بشيراً.
استغاث أصحاب الحق مطالبين باستعادة إنسانيّهم بابتهالات تماوجت في فضاء وجودهم مزناً هطلت بلسماً روى جذور براعم المستقبل الهزيلة على أرض وطن هزيل فاستقام بها المقام واشتدّ عودها إلى علياء فألقت صنانيرها عند سطح البحيرة.
اهتزّت صنّارته، ارتعد، شدّ صيده حتى أمسك به. لم يكترث لكينونته، لم يتفحّص صيده فانتزعه ملتهماً ليشبع جوعه الأزلي، فانتعش. غمره شعور غريب بالقوة، تدفقت إلى كيانه تعابير لم يدركها من قبل. تماسك، فنطق صادحاً: ثورة، ثورة…
اهتزت الصنانير… ضجّت السماء
بدأ عهد الرعد متفجّراً: ثورة، ثورة…
سمع الهتاف مَن تقاعس جبناً وخوفاً فهرول كما هو مستجيباً ليوم قيامة أبكر فجرُه. اشتعلت شموع الثورة في لبنان، في كلّ قرية ومدينة، بل في كلّ بيت ذاق لوعة الظلم والفساد، في كلّ بيت حرمه الطغيان حقوقه الإنسانية، تلك التي نصّ عليها الخالق قبل الرسالات.*رتاج: الباب العظيم