استباقاً لوقوع الكارثة الكبرى…
خالد الداعوق _
ما يحصل في لبنان على صعيد المصرف المركزي أو القطاع المصرفي هو مسألة معقدة بشكل كبير جداً، حيث يتعرّض شعب بأسره لعملية تصحّ فيها تسميات كثيرة لن نوردها في هذا السياق، إذ يكفي سرد بعض الوقائع والحقائق حتى يختار القارئ الوصف الذي يشاء لعملية يفوق حجمها الـ 180 مليار دولار…!
ماذا يعني أن يذهب مودِع إلى المصرف فيُقال له: لا تستطيع سحب وديعتك؟ يعني بكلّ بساطة أنّ الأمانة التي أودعها في المصرف لم تعُد موجودة، أو أنها لم تعد موجودة بكاملها…؟
ولا يخفي المسؤولون في مصرف لبنان وفي القطاع المصرفي، أنّ جزءاً كبيراً من الأموال أصبح خارج لبنان، وهم يقرّون بذلك في الغرف المغلقة. ووفق تقديرات وضعها وزير الاقتصاد والتجارة الدكتور منصور بطيش أمام الحاضرين في اجتماع بعبدا المالي الاقتصادي، فإنّ حجم المبالغ الموجودة في الخارج لمصرف لبنان وللقطاع المصرفي يصل إلى حوالى خمسين مليار دولار، ما عدا الذهب الموجود جزء كبير منه في الخارج أيضاً منذ ثمانينيات القرن الماضي.
الأفظع من ذلك هو أنّ الأزمة النقدية لم تكن وليدة الأيام أو الأسابيع القليلة الماضية، ولا هي طرأت مع انطلاق الحراك الشعبي في الساحات، بل هي سابقة لذلك بأشهر عدة، والمسؤولون في المصرف المركزي والمصارف يعرفون الأمر بتفاصيله… وبما أنهم يعرفون، فماذا نسمّي قيام مصرف لبنان والمصارف برفع الفوائد وتقديم الإغراءات لجذب المزيد من الأموال والإيداعات من المقيمين والمغتربين ومن غير اللبنانيين أيضاً، طالما أنّهم لا يستطيعون تلبية طلبات المودِعين القدامى والجدد في تحريك حساباتهم، كما يشاؤون؟ أم أنّ الأموال الجديدة التي تمّ استقطابها بالإغراءات أصبحت أيضاً خارج لبنان مثل الودائع السابقة؟
أزمة السيولة هذه ولّدت أزمة في سوق القطع، وبدل أن يسعى مَن بيدهم الحلّ والربط إلى معالجتها أو على الأقلّ الحدّ من تداعياتها، تركوا الأزمة تتفاعل ورموا الكرة إلى الصيارفة، بل زوّدوهم بالدولارات وتاجروا وإياهم وحققوا أرباحاً إضافية على حساب المواطنين. والأهمّ أنّ كلّ ذلك أدّى إلى هزّ الثقة التي كنا في السنوات الماضية نتغنّى بها ونمجّدها.
نحن إذن أمام مسألة أو معضلة كبيرة جداً، لم تظهر بعد كلّ تداعياتها وسلبياتها، حيث لم يسبق أنّ تعرّض شعب بأسره وبلد بأكمله لأزمة من هذا النوع. كنا في السابق نسمع عن أفراد في لبنان وفي بلدان ومدن قريبة وبعيدة، قدّموا إغراءات للناس حتى يوظفوا أموالهم لديهم وبفوائد وعائدات عالية جداً، تصل أحياناً إلى 30 أو 40 في المئة، وكان هؤلاء يلتزمون بما يعِدون به لفترات محدودة الأمر الذي كان يمكّنهم من استقطاب المزيد من الأموال، ومن ثم يختفي هؤلاء وتختفي معهم أموال الذين وثقوا بهم وأعطوهم جنى العمر…
كانت هذه الأمور تحصل على مستوى الأفراد وفي أماكن محدّدة، فهل ما نشهده في لبنان هذه الأيام مشابه لتلك العمليات الاحتيالية، ولكن على مستوى أشمل وأعمّ؟
والأكيد أننا لم ننتظر أبداً أن تقدِم البنوك اللبنانية على أعمال مشينة كهذه، كما يفعل عادة المفلسون أو النصّابون…!
وإذا كانت للمصارف جمعية تدافع عنها، وللصيارفة نقابة ترفع صوتها من أجلهم، فمن هي الجهة التي تحمي المواطنين المودعين المعرّضين لخسارة ما يملكون من مدّخرات؟ وإذا كان الجواب أنّ القضاء هو الجهة الصالحة لحماية الناس نقول جيد جداً، لكن الإجراءات القضائية المعتمدة تأخذ الكثير من الوقت، وتحتاج إلى مراجعات ومرافعات طويلة ومعقدة، وكما يقول المثل الانكليزي: time is money .
لذلك كنا دائماً في “منبر الوحدة الوطنية” ننادي ونطالب مراراً وتكراراً عبر الإعلام وفي كلّ المنتديات الحوارية التي تواجدنا فيها، كما وجّهنا كتاباً إلى رئيس الجمهورية أكدنا فيه ضرورة إصدار المراسيم التطبيقية لقانون “وسيط الجمهورية” الذي أقرّ في عهد الرئيس العماد إميل لحود وحكومة الرئيس عمر كرامي بتاريخ 11 كانون الأول 2004 ونشر في الجريدة الرسمية مطلع العام 2005 وحمل الرقم 664.
أهمية هذا القانون أنّ “وسيط الجمهورية” هو بمثابة محامٍ للمواطن في وجه تسلّط رجال الدولة في الوزارات والإدارات والبلديات والمؤسسات العامة، لكن للأسف لم تصدر مراسيمه التطبيقية لغاية اليوم. وبما أننا أمام كارثة وطنية كبيرة اسمها ضياع مدّخرات وودائع اللبنانيين، فإننا نطالب بأن يتمّ تطوير هذا القانون بشكل سريع، وإنشاء مجلس أو دائرة له، بحيث يصبح مخوّلاً أيضاً بالدفاع عن حقوق المودعين لدى المصارف اللبنانية، وتكون له السلطة بأن يتخطّى السرية المصرفية للدخول إلى الحسابات المشكوك بأنّ أصحاب البنوك ومدراءها وأفراد عائلاتهم قد حوّلوا من خلالها أو ما زالوا يحوّلون الأموال إلى الخارج، وبالتالي يكون بإمكان «وسيط الجمهورية» اتخاذ الإجراءات القانونية الصارمة بحق كلّ من يظهره التحقيق متلاعباً أو مشاركاً في التلاعب بأموال وحسابات اللبنانيين، حتى لو وصل الأمر إلى حدّ توقيفهم وسجنهم، وحجز ممتلكاتهم المنقولة وغير المنقولة في الداخل والخارج، حتى لو تطلّب ذلك مخاطبة مَن يلزم من مؤسّسات وبنوك مراسلة لاستعادة الأموال التي تمّ تهريبها إلى الخارج.
وكما قلنا آنفاً فإنّ هذه الأزمة سابقة لانطلاق الحراك الشعبي في 17 تشرين الأول الماضي، لكن المصارف اتخذت من الحراك حجة وأقفلت أبوابها عن قصد تحت ذريعة الدواعي الأمنية.
إذن الحراك الشعبي ليس مسؤولاً عن الأزمة النقدية والاقتصادية، لكن اللبنانيين تأمّلوا خيراً في هذا الحراك عند انطلاقته علّه يكون مدخلاً فعلياً لإصلاح حقيقي ولتغيير جذري ينقذ بلدنا من هذا الواقع المزري، لكن للأسف الشديد دخلت السياسة وبعض الجهات السياسية والحزبية على خط الحراك البريء والنظيف، وذلك بهدف استغلاله وركوب موجته في سياق صراعهم مع جهات سياسية وحزبية أخرى، فشوّهت صورته عبر بعض الممارسات الخاطئة، لا سيما قطع الطرق الذي أدّى إلى سقوط عدد غير قليل من الضحايا المأسوف عليهم بالتأكيد.
ختاماً نعود ونؤكد المطالبة بأعلى صوت، ونناشد رئيس الجمهورية ورئيس مجلس النواب ورئيس الحكومة التي نأمل تشكيلها اليوم قبل الغد، ونناشد الوزراء والنواب بأن يسارعوا إلى تطوير قانون وسيط الجمهورية واستحداث دائرة أو هيئة تابعة له، مؤلفة من كبار القضاة والمحامين والخبراء الماليين والاقتصاديين للدفاع عن حقوق الناس وعدم السماح بضياعها، لأنّ هذا الأمر سيودي بلا شكّ إلى كارثة وطنية كبرى…
ولتفادي هذه الكارثة الكبرى ننتظر من جمعية المصارف ومن المصارف أن تضع خطة واضحة وتعلنها أمام الرأي العام، لا سيما أمام أصحاب الودائع، تبيّن لهم فيها الإجراءات التي اتخذتها والتي ستتخذها من أجل حماية الودائع، وإلى متى ستمتدّ المرحلة الانتقالية الحالية، ومتى سيستعيد أصحاب الودائع حرية التصرف بودائعهم كما يشاؤون، وكما تقول العقود والأعراف والقوانين والأنظمة المرعية الإجراء…؟!
*أمين عام منبر الوحدة الوطنية.