أحمد جميل الحسن… كنت أظنّه هرماً عصيّاً! كيف أذابته شمس البلاد؟
} طلال مرتضى*
لماذا يغادرون على عجل؟!
مَن علّمهم ركوب درب الوداعات، مَن أخبرهم بعلم اليقين، بأننا لم نكن لنريد منهم سوى تلويحة يد مارقة عبر هواء فراغ أرواحنا؟
لماذا يطرق الموت قلوب وأرواح من سلّمنا وتركنا بيد أيديهم فتنة حواسنا التائهة لتضيع في هباء الزمن الذي لا يتوقف؟
في هذه اللحظة كل الذي ارتسمت فلسطين على شبكة قلوبهم كخارطة طريق وتعشعشت في أرواحهم عشقاً مطالبون بالإجابة الحقة. مَن دلّ مليك الموت إلى ملاذ «أبي جلال» الفلسطيني كي يتسلّل إليه خلسة ويدك مضجع خلوته البارد؟ كلكم متهمون أمام تمادي الموت وسطوته التي طالت «أحمد جميل حسن» هذا المساء.
وأنا أكتب نعيَه الآن.. لم يتسنّ لدمعة واحدة الهرب من مقلتي، عبثاً تحجر الماء في عيوني، صرت عصي الدمع، كما يقولون. تلك ليست ببلادة وتلك ليست بمجافاة وتلك ليست غلاظة روح وليست فظاظة قلب عاث به برد الاغتراب.
أبداً ليس كل هذا بي، فقط كنت أنادد صورة أبي جلال، مناددة الرجل للرجل، وقفت أسأله، لماذا أخلفت بوعدك لي، لمحبيك، للشام، لفلسطين؟!
مالي أراك ساجم الحواس، ألم تقل بعد أن هُجّرت من بيتك قسراً في الحجر الأسود حين طالته يد الغربان، بأن كل بيوت دمشق بيوتك؟
لقد صدقت بنية صافية بعدما أعرضت عن الاستجابة لنداء عائلتك التي غادرت البلاد وبقيت متشبثاً بقرارك.. «لن أخرج من الشام إلا نحو جهة جنوني الأولى والأخيرة… فلسطين».
أنا أضحك ملء روحي من البكاء يا أبا جلال، أضحك على انفراط عقد الكلام بين أصابعي الخرساء والسؤال الأبكم يغصّ في حنجرتي، لماذا كل الذين علّموني فتنة ورهجة الحياة هم أول مَن يتركونها، لماذا لم يفوا بوعودهم؟
هكذا تسلل «أبو طارق.. حمزة برقاوي» ذات غياب مثل هدف مباغت ليترك صفحة الكلام بيضاء مثل قلبه دون وداع.
كيف غرّر بي ذات مرة عصام العبد الله، واعداً:
«روح أمّن ولادك ورجاع يا طلال، حتلاقينا هون ع حطة إيدك، البلاد خربت».. ههههه يا الله.. ع حطة إيدك.. أي صدقت وأنا الذي كنت أراك هرماً لبنانياً كأهرام مصر البعيدة صعب المراس وقوي الشكيمة لا تهزّ ريح الهوج، ما لي أراك وقد غافلتني بعد أن ركبت أنا دروب البعاد لتنهار مثل جبل ثلجي تسربلته خيوط شمس مخاتلة وتغيب، صيّرت أرض الشعر ماء أول ما أغرقت به خيط النمل الذي عبر زيح قصيدتك الأخيرة.
هكذا فعلت يا أبا جلال الليلة مثلهم، لقد أخلف وعده مع كل الذين كانوا ينتظرون «ثلاثاء دمشق».. ليولوا وجوههم نحو شارع بغداد حيث يجدونك أول الواصلين، تقف على النافذة ذات الستارة الخضراء والتي لم تزل تحتفظ بدخان سيجارتك وربما بعض من بقع متناثرة من كأس قهوتك المعهود، تقف كالقناص لترصد الطريق المؤدية إلى الأزبكية لتسجل أسماء الواصلين قبل وصولهم وقبل أن تلتف نحو الوراء ترمي بنظرتك الأخيرة مطمئنا نحو امتداد قاسيون البعيد الملتف كسور عتيق أو كشال مرقط التفّ حول عنق الشام.
الحرب يا أبا جلال لا شك في أنها هدمت المباني وخربت كل تصاوير الجمال في بلادنا، كنا نبلع ريقنا على مضض ونقول، كل هذا يمكن تعويضه، ولكنني أترك سؤالي الأخير نهاية السطر البائس، كيف سنعوّض خسارة هذا القلم الكبير المحب والإنسان. كل حروب الأرض وانتصاراتها لا تجبر كسر قلم!
في دمشق اليوم سقط قلم إنسان.. إنسان بمعنى الكلمة من خفق وأنفاس..
لك الحق يا دمشق أن تذرفي دمعاً على فراق ابنك الضيف الذي غافلته المنية بقلبك وهو يرفل أنفاسه روحه بلهج القدس العتيقة.
أبا جلال الأديب والقاص.. عذرك..
فلقد خانتني اللغة في هذا المساء البارد وارتبكت بين أصابعي الخرساء لوقع حزن قلبي على فراقك أو على وداعك من دون كسرة عناق أخيرة.
باسم الكلمة.. باسم الحبر وإنسانيته.. باسم الذين رصدوا حياتهم وأقلامهم لعشق فلسطين.. باسم الذين حجوا دمشق باسم الحب أنعى صديق الحبر ورفيق حكايات العشق الفلسطينية الأديب الفلسطيني القاص أحمد جميل الحسن الذي وافته المنية في دمشق.
أحمد جميل الحسن، عضو الاتحاد العام للكتاب والصحافيين الفلسطينيين فرع سورية ورئيس جمعية القصة والبحوث في الاتحاد، له عدد من الإصدارات الأدبية في القصة القصيرة وغيرها.
أحمد جميل الحسن بقي مواكباً الحراك الثقافي السوري الفلسطيني حتى الأسبوع المنصرم قبل أن يتمكن منه المرض من خلال الفعالية التي كان يديرها في مقرّ الاتحاد كل يوم ثلاثاء، لم تثنه كل ما تعرّضت له البلاد من طعنات بقي مؤمناً وغادرها مؤمناً بأنها على حقّ ومنتصرة لا محال.
أبا جلال.. سلاماً للتراب الدمشقي الذي ستتلحف به.* كاتب عربي/ فيينا.