لبنان… وحتميّة الخروج من الأزمة
د. جمال زهران _
المتابع للشأن اللبناني وما يحدث فيه.. يفرح ويحزن ويتألّم.. ولكنه متفائل.
– فالفرح والسعادة بالحراك الشعبي والواسع وغير المحسوب على أية قوة سياسية، رغم محاولات بعض القوى المضادة ركوب الموجة داخلياً وخارجياً، إلا أن الحراك وقواه الحية حريصون على لفظ ذلك وتجاوزه، وتأكيد وجوده في الشارع حراً ومستقلاً، وليست لديه سوى رؤية واحدة تحددت في بيانات رسمية شاملة، ومضمونهاً إحداث تغيير جذري في لبنان وإعادة النظر في ترتيب القوى السياسية بإلغاء الطائفية السياسية كمعيار لتوزيع المناصب في الدولة (العليا والعادية) ليصبح لبنان دولة طبيعية غير طائفية. ومن ثم فإنّ أيّ عروبي حقيقي لا يمكنه التنكّر لهذا الحراك الشعبي الحقيقي بعيداً عن القوى المضادة التي تسعى لركوب الموجة والمتاجرة بها، على خلفية إعادة إنتاج الواقع ولكن بطلاء جديد لا معنى له. وبالتالي فإنّ دعم وتأييد هذا الحراك الشعبي الحقيقي واجب عروبي وقومي. وهو الحادث في صفوف غالبية العروبيين في أنحاء الوطن العربي من خلال متابعتي. وهو الأمر الذي جعلني أؤجّل الكتابة في الشأن اللبناني إلى حين التعرّف الدقيق على الواقع، وعلى الاتجاهات السائدة في وطننا العربي الكبير رغم ما يعانيه من تمزّقات. كما أنني تريّثت من زاوية أنني من محبّي وعشاق لبنان وسورية، ولا أريد إلا الخير لهذا البلد الواحد، وأبناء الشعب المناضل والمقاوم إجمالاً في الدولتين…
– أما الحزن والتألّم، فيأتي من الواقع الذي انكشف على الملأ، وانفضح الأمر بفعل الحراك الشعبي الحقيقي، وقد كان في سبيله إلى ذلك، حتى لو لم يحدث الحراك ذاته.
فكلّ الأمور كانت تسير في الطريق الخطأ، وتستدعي التدخل الصارم والحاسم لإصلاح المعوجّ وبسرعة. إلا أنّ الأمور كانت بطيئة للغاية ولا تنبئ بإحداث تغيير جذري، لانعدام الرؤية السياسية الشاملة، ومعها انعدام الإرادة السياسية لدى كافة الأطراف، لذا انفجر الشارع اللبناني، ودخل تمام الشهرين (60 يوماً) بلا توقف نهائياً. وهو أمر خطير للغاية، أن يستمرّ المتظاهرون في الشارع طوال هذه المدة. إلا أنه بقراءة الواقع الإقليمي، فقد استمرّ الحراك الشعبي في السودان شهوراً وصلت إلى ثمانية، والجزائر وصلت إلى التغيير نحو الأفضل، وبالتالي فهو يحمل رسالة إلى كلّ من يعنيه الأمر، بضرورة التعجيل بالقيام بمسؤولياته لتفادي الدخول في أزمات طاحنة للدولة في كلّ المجالات.
فهناك مَن يحمّل الحراك الشعبي مسؤولية التدهور الاقتصادي الحادث، وكأنّ ما كان قبل الحراك، ازدهاراً وتقدّماً ونهضة. وهو قول حق يُراد به باطل.
فالحق أنّ هذا الحراك كشف الغطاء عن حجم التدهور الاقتصادي نتيجة اتباع سياسات الصندوق والبنك الدوليين، وهي سياسات رأسمالية متوحشة غيّبت التقدّم والنهضة والتصنيع الملائم للبنان، وشجعت على الفساد وتراكم الثروات في أيدي القلة، وأدخلت الدولة اللبنانية في خندق الديون الخارجية التي تجاوزت الـ 100 مليار دولار، على شعب لا يتجاوز الـ 5 ملايين نسمة! فكيف الطريق لسداد هذه الديون.. وتداعيات ذلك على الوضع الداخلي، وممارسة الضغوط الخارجية لاتباع سياسات إقليمية معينة!
فكيف تتمّ مواجهة ذلك حاضراً ومستقبلاً؟! فهل الحراك كان هو السبب في أزمة الديون وتداعياتها؟! بالطبع لا.. إنها سياسات إغراق الليرة اللبنانية منذ سياسات رفيق الحريري، فهل تتذكّرون؟!
الآن نسمع تدخلات خارجية وضغوطاً من الخارج وتتبناها قوى داخلية تعمل لصالح أميركا وأوروبا، تسعى لضرب المقاومة اللبنانية، تحقيقاً لمصلحة «إسرائيل»، ولا يعلم هؤلاء، انّ أكبر مصلحة للبنان وسورية والعروبة، هي في استمرار المقاومة اللبنانية بقيادة حزب الله.
فالحراك فجّر التناقضات الاقتصادية والواقع المؤلم، وكشف الغطاء عن الفساد والفاسدين، الذين يسعون لإبعاد الصورة عنهم بالدفاع عن أجندات خارجية مشبوهة. وهنا فإنّ هذا الأمر يستلزم توافر إرادة سياسية وقوية لمعالجة ما كشف الحراك، الغطاء عنه. فالوضع الاقتصادي اللبناني في خطر حقيقي، ومستويات المعيشة تتدهور في جميع الجوانب، والبنوك تعطل تسليم السحوبات للموظفين الغلابى، بينما تمكّن اللصوص والفاسدون من تهريب أموالهم للخارج، وسط انعدام رقابة وتواطؤ مفضوح مع البنك المركزي اللبناني ورئيسه. وسمعت وعرفت وقرأت، الأحوال الاقتصادية ومعاناة اللبنانيين، فأزداد حزناً، خصوصاً مع انعدام الإحساس السياسي لدى الطبقة الحاكمة التي تستحق المحاسبة «كلن». صحيح أنه لا يمكن نسيان أو تجاهل دور الرئيس ميشال عون، منذ اختياره منذ ثلاث سنوات تقريباً، ولكن في الوقت نفسه ينبغي أن يستمع لأصوات الشعب وحراكه السياسي الكبير والمرشح لأن لا يتوقف قبل الاستحقاقات المطلوبة له.
أما الأمل، فإنه يحدوني لتحركات سريعة بقيادة الرئيس ميشال عون مع حزب الله وهو الخط الأحمر حتى للحراك من واقع وثائقه التي وصلتني من أكثر من جهة بالحراك. فإنهما القادران على صنع وتوليد الأمل في غد مشرق للبنان، يقوم على الاستجابة الكاملة لمطالب الحراك. فإعادة رسم التوجّهات الاقتصادية يُعيد الاعتبار للواقع الاقتصادي اللبناني ببرامج جديدة تتجه شرقاً، وتعطي ظهرها لأجندات الغرب الرأسمالية التي دمّرت اقتصاد لبنان، وكذلك مقاومة الفاسدين بحسم واسترداد أموال الشعب المنهوبة، وتكوين حكومة جديدة بعيداً عن الطائفية لترجمة أجندة الحراك بالكامل، وإخضاع الجميع للمحاسبة، وتقوية السلطة القضائية لترجمة ذلك… ونكمل بعد ذلك…
*أستاذ العلوم السياسية، والأمين المساعد للتجمع العربي والإسلامي لدعم خيار المقاومة والمنسق العام للتجمّع بالقاهرة، ورئيس الجمعية العربية للعلوم السياسية.