حزب الله وإشكالية التغيير في لبنان
زياد حافظ _
أسئلة تُطرح بشكل مستمر: ما هو التغيير المطلوب في لبنان، وكيف يكون التغيير، ومَن يقود التغيير؟ الإجابة على السؤالين الأوليّن سهلة نسبياً. الانتفاضة الشعبية في لبنان منذ 17 تشرين الأول/أكتوبر قدّمت بعض الإجابات التي تتعلّق في مستلزمات إقامة نظام بديل عن النظام الطائفي، ومكافحة الفساد ومحاسبة الفاسدين، دون تقديم رؤية متكاملة حول الموضوع، وذلك بعد أن بدأت بالاحتجاج على بعض الإجراءات المالية التي كانت بمثابة الشعيرة التي قصمت ظهر البعير. والخلفية لهذه المطالب كانت تردّي الأوضاع الاقتصادية بسبب الفساد والخيارات الخاطئة على الصعيد الاقتصادي والمالي والتي ما زالت تتفاقم بسبب المضاربة على الليرة اللبنانية التي أطلقها أرباب النظام السياسي القائم. فالفساد ومن ثمّ تهريب الأموال لعدد من المسؤولين النافذين قبل الانتفاضة وخلالها دليل على أن النظام القائم أصبح قاب قوسين. فأرباب النظام فقدوا الثقة بديمومة النظام كما فقدوا ثقة الشعب. لكن هذا لا يعني أنهم استسلموا للواقع بل سيقاومون بكل ما لديهم للعودة إلى ما قبل 17 تشرين الأوّل.
التغيير المطلوب في لبنان له شروط موضوعية وشروط ذاتية. الشروط الموضوعية أصبحت أكثر وضوحاً مع التغييرات والتحوّلات دولياً وإقليمياً وعربياً، وذلك لمصلحة مشروع تغييري يفيد الشعوب وقضاياها، بينما النظام الدولي القائم لا يهتم إلاّ بمصالح نخبه وعلى حساب مصالح الشعوب. لكن الشروط الذاتية ما زالت في حال من الضبابية حيث لا يمكن تحديد مَن يريد، ومن يستطيع القيام بمهام التغيير. وإذا كانت الإرادة موجودة عند معظم اللبنانيين إلاّ أن القدرة ما زالت مفقودة. فالانتفاضة لم تفرز، وربما لن تفرز في المدى المنظور، هيئة أو هيئات تستطيع قيادة التغيير. وعدم قدرة الانتفاضة على إفراز قيادة ما يعود إلى شرذمة مكوّنات الانتفاضة الشعبية التي لم يقُدها أحد في البداية، بل كانت ردّة فعل عفوية على إجراءات تعسّفية من قبل الحكومة الباحثة عن موارد إضافية للدولة أو ربما لبعض النافذين فيها. فلم يعُد ممكناً تصديق النافذين بجدّية قراراتهم أنها لمصلحة المواطن.
نجاح أرباب السلطة في النهب الممنهج منذ إقرار اتفاقية الطائف في لبنان يعود إلى عدم وجود قوى تغييرية جادّة تستطيع إجراء التغيير. فقوّة الاندفاع التي رافقت اتفاقية الطائف استمرّت حتى تحرير جنوب لبنان في أيار 2000 حيث برزت إمكانية وجود قوّة وطنية تستطيع قيادة التغيير أي حزب الله. لكن تلك الآمال لم تتحقق لأسباب عدة منها موضوعية ومنها ذاتية. فالمقاومة في لبنان أنجزت ما لم تستطع إنجازه الدول العربية في استرجاع أراضي احتلّها الكيان الصهيوني، وذلك من دون مفاوضات ومن دون تنازلات عن السيادة الوطنية. كما لم تفلح قرارات الأمم المتحدة في دفع الكيان الصهيوني إلى الخروج من الأراضي المحتلة. فالإنجاز الهائل الذي حقّقه حزب الله عبر المقاومة في لبنان جعل الكيان ومعه ومن ورائه الولايات المتحدة والرجعية العربية يجهدون إلى كسر تلك السابقة التي شكّلت تحوّلاً مفصلياً في تاريخ الصراع العربي مع الكيان الصهيوني. فكان اغتيال الرئيس الحريري الذي أدّى إلى خروج قوّات الجيش العربي السوري من لبنان تلاه عدوان تموز في 2006. ومنذ نصر تموز تمحورت سياسة الولايات المتحدة حول إضعاف حزب الله، فالمقاومة في لبنان عبر شتّى الوسائل.
هذا الاسترجاع السريع للتاريخ القريب ضروري لفهم لماذا المقاومة/ حزب الله التي أنجزت التحرير لم تقدم على التغيير المباشر على الصعيد الداخلي، أو لم توظّف نصر التحرير ونصر تموز في إنجاز التغيير المطلوب؟ يغيب عن بال المنتقدين لذلك الإخفاق أن أولوية المقاومة هي الصراع مع الكيان الصهيوني. العديد في لبنان لا يعتقد أن هذه المهمة تقع على عاتق لبنان، وبالتالي على أي تنظيم سياسي لبناني، بل على جميع الدول العربية. لكن في غياب القرار العربي وعجز الدولة اللبنانية في ذلك الشأن تحمّل حزب الله مسؤولية المقاومة التي تعطي الشرعية لأي حراك سياسي في المنطقة خلافاً لشرعيات افتراضية أو جزئية يتكلّم عنها البعض. فشرعية أي نظام عربي أو أي تنظيم سياسي في نظرنا تنبثق عن الالتزام الفعلي وليس اللفظي في الدفاع عن الحق العربي في فلسطين. الدول العربية التي حاولت تحمّل تلك المسؤولية تمّ تدميرها بشكل أو بآخر. فمثل العراق وليبيا وسورية خير دليل على ذلك. سورية هي الوحيدة التي صمدت بسبب قرار القيادة والشعب والدعم الإقليمي والمقاومة والتحوّلات في موازين القوّة دولياً لصالح جبهة تناهض الهيمنة الأميركية.
غير أن كل ذلك وضع حزب الله/المقاومة في عين العاصفة، وبالتالي كان لا بد لحزب الله من إقامة تحالفات لبنانية وعربية وإقليمية لدعم نضالها. في لبنان، هذا ما فعله في الساحة الشيعية عبر التحالف الاستراتيجي مع حركة أمل متجاوزاً الخلافات التي سادت العلاقات بينهما في البداية، ومسيحياً ما أقدم عليه في تفاهم شباط/فبراير 2006 مع التيّار الوطني الحر. التحالفات الاستراتيجية لا تعني التفاهم على كل شيء وفي التفاصيل بل هناك مجال للاختلاف التكتيكي. كتاب الأستاذ ناصر قنديل «فلسفة القوّة» يشرح بشكل مسهب ذلك الموضوع. أما على صعيد المكوّن السنّي في لبنان الذي يقوده تيّار المستقبل والمكوّن الدرزي مع الحزب التقدّمي الاشتراكي استطاعت المقاومة نسج علاقة تفاهم تكتيكي في ظلّ خلاف استراتيجي مع ذلك التيّار تجلّى في «التفاهمات» الانتخابية ضمن التحالف الرباعي عام 2005 وفي عامي 2009 و2018 و»التسوية» السياسية، حيث تجنّبت المقاومة المواجهة في دوائر عديدة مع تيّار المستقبل. ونتيجة تلك التسوية كانت انتخاب الرئيس ميشال عون، فعاد الرئيس الحريري إلى رئاسة مجلس الوزراء لمرّة ثانية. فما يحكم سلوك المقاومة هو المحافظة على الاستقرار والسلم الأهلي للتفرّغ للصراع الاستراتيجي مع العدو الصهيوني.
هذا الموقف يشكّل في آن واحد نقطة قوّة ونقطة ضعف للمقاومة كي تصبح عاملاً أساسياً في التغيير المطلوب في لبنان. فنقطة القوّة تكمن في تأمين الحد الأدنى من الاستقرار والسلم الأهلي وهو شرط أساسي للتفرّغ إلى مواجهة العدو الصهيوني. أما نقطة الضعف فتكمن في تحمّل نتائج سلوك حلفائه. في المراحل التي سبقت حتى انتفاضة 17 تشرين الأول كان يمكن تفهّم هذا الصبر على السلوك. أما اليوم، فالمعادلة أصبحت مغايرة للاعتبارات التي كانت سائدة في المراحل السابقة. فاللبنانيون بأكثريتهم الساحقة عبّروا عن انتفاضهم ضد الفساد والأوضاع المعيشية الناتجة عن سلوك الطبقة الحاكمة بما فيها حلفاء حزب الله/المقاومة وإن كان دور حزب الله في ذلك محدوداً جدّا لا يتجاوز السكوت عن سلوك حلفائه.
وإذا كانت الخلافات الظرفية مع حلفاء حزب الله لا تهدّد العلاقات الاستراتيجية بينها غير أن التمسّك التكتيكي بالرئيس الحريري يعزّز من موقف خصوم المقاومة استراتيجياً من دون إضافة تذكر على الصعيد الاستراتيجي لمصلحة المقاومة. فسلبيات العلاقة مع رئيس تيّار المستقبل واضحة وحقيقية بينما ايجابياتها افتراضية وغير صحيحة. في مرحلة سابقة، كان الرئيس المستقيل يمثّل توافقاً للمكوّن السنّي وإن لم يكن يمثّل جميع السنّة. الانتخابات البرلمانية الأخيرة أفضت أن حجمه الانتخابي والشعبي لا يبرّر ما صدر منذ بضعة أيام عن مرجعيات دينية اعتبرت أنه ممثلها الوحيد. فهناك فئة وازنة داخل المكوّن السنّي لا تؤيّد الرئيس المستقيل، كما أن فئة وازنة من مؤيّديه لا تتفق مع حزب الله. وبالتالي لن يعطي الرئيس الحريري التغطية «السنّية» لحزب الله التي يراهن عليها الأخير وذلك مهما كان التفاهم.
من جهة أخرى التمسّك بالرئيس الحريري أو من ينوب عنه هو التمسّك أيضاً بخيارات وسياسات أدّت إلى ما وصل إليه لبنان. وبالتالي إعادته إلى سدّة رئاسة الوزراء لن تأتي بخيارات وسياسات جديدة بل بسياسات تعمّق المأزق الاقتصادي والمالي وخاصة الاجتماعي. فلا مقرّرات مؤتمر «سيدر»، ولا الورقة الإصلاحية، ولا مقرّرات مؤتمر باريس ستساهم في انتشال لبنان من مأزقه بل ستضعه تحت وصاية البنك الدولي وصندوق النقد الدولي على الصعيد الاقتصادي والمالي، وتحت وصاية ما يُسمّى بالمجتمع الدولي فيما يتعلّق بقرارات السياسة الخارجية.
الخطاب الأخير لأمين عام حزب الله السيد حسن نصر الله كان هادئاً وبراغماتياً. لكن تلك البرغماتية كانت مخيّبة لآمال العديد من اللبنانيين الذي توقّعوا إدارة للأزمة اللبنانية بمستوى إدارة الصراع مع الكيان الصهيوني. الخشية من التصادم مع المكوّن السنّي يحكم مقاربة حزب الله ونعتقد أن تلك الخشية مبالَغٌ بها. لا شكّ في أن الرئيس الحريري له حيثياته السنّية، لكن إخفاقاته المتعدّدة كشفت عيوبه السياسية والمالية حتى عند جمهوره. لكن الحزب لم ينجح في التعاطي مع ذلك المكوّن بشكل يزيل أو يخفّف المخاوف الموجودة لديه وإن كنّا نعتقد أنها مبالغ بها أو حتى مفتَعَلة. لكن هذا حديث آخر.
كان بإمكان الحزب التعاطي مع الانتفاضة بشكل مختلف عبر احتضانه لها والتفاعل معها وليس عبر الانكفاء كما حصل، ما زاد الريبة عند العديد من المنتفضين المؤيّدين للمقاومة. هنا أيضاً كانت الخشية من التصادم مع «الشارع السنّي» هي التي تحكم سلوكه وإن كان ذلك الشارع من المخيّلة أكثر من الواقع. فهناك «شوارع» سنّية لا تنسجم مع الرئيس الحريري وهي ليست ببسيطة. كما أن جمهور تيّار المستقبل حمل تاريخياً الهم الوطني والقومي. صحيح أن ذلك الهم تراجع مع صعود نجم رفيق الحريري وبلاد الحرمين، لكن ذلك المكوّن كان تاريخياً الحاضن للعمل الوطني والقومي في لبنان. كان بإمكان الحزب استنهاض ذلك الشعور عند ذلك الجمهور متجاوزاً بذلك الاعتبارات المذهبية. فالخطاب الوطني والقومي هو الذي يحمي المكوّنات في المجتمع اللبناني وليس الخطاب الديني أو المذهبي الذي برهن عن عبثية مدمّرة للبنان. وكذلك الأمر في مختلف أقطار الوطن العربي. تجربة كمال جنبلاط في خلق صيغة الحركة الوطنية في السبعينيات تدلّ على أن الخطاب الوطني والقومي يجمع مختلف المكوّنات واستطاع أن يحوّل الصراع القائم آنذاك من صراع طائفي إلى صراع وطني. فالحركة الوطنية ضمّت المسلمين وغير المسلمين، العلمانيين وغير العلمانيين، القوميين وغير القوميين، اليساريين وغير اليساريين بينما فريق الجبهة اللبنانية كان فريقاً طائفياً بامتياز.
صعود حزب الله لا يكمن فقط في استنهاض جمهوره على قاعدة «شيعية» بل على قاعدة حمل الهم الوطني والقومي. فتحرير لبنان من الاحتلال الصهيوني لم يكن «همّاً» شيعياً بل همّ وطني. والدليل على ذلك إهداء النصر على لسان أمين عام حزب الله لجميع اللبنانيين. وتطهير جرود عرسال والقلمون لم يكن همّاً شيعياً بل هم وطني، لما كانت جماعات التعصّب والتوحّش والغلو تشكّل من تهديد مباشر لمكوّنات المجتمع اللبناني. ونجاح الحزب في جرود عرسال والقلمون خير دليل على أن أهل السنّة والجماعة لم يقفوا مع جماعات التعصّب والغلو والتوحّش رغم محاولات مشبوهة لبعض قيادات سنّية. فلماذا لم يتلقّف الحزب ذلك ويباشر ببناء علاقات مع مختلف مكوّنات السنّة في لبنان؟ لماذا لم ينجح في التفاعل مع جمهور تيّار المستقبل وتركه للنزوات المدمّرة لقيادات ذلك التيّار؟
كيف يمكن للحزب أن يثق بمَن طَعَن في التفاهم معه؟ لقد أعلن الأمين العام لحزب الله في خطابه الثاني بعد انطلاق الانتفاضة أنه متمسّك بالحكومة التي تستطيع بعد التعديلات تنفيذ بنود الورقة الإصلاحية التي تمّ الاتفاق عليها سابقاً، وذلك لتكريس الوحدة الوطنية. أثار ذلك الخطاب إحباطاً كبيراً عند المنتفضين عندما دعا أيضاً الأمين العام إلى خروج جمهوره من الانتفاضة، فأعطى الانطباع أن حزب الله يحمي الحكومة الفاسدة. لكن كل ذلك لم يمنع الرئيس الحريري من تقديم استقالته للظهور بأنه متجاوب مع المنتفضين ورمى الكرة في ملعب الحزب وحلفائه. نقض بذلك التسوية وظهر أنه غير ملتزم بها. هكذا كان التعامل مع الحزب فلماذا يريد الحزب إذن تكرار التجربة؟ الحرص على الوحدة الوطنية لم يعد يحتمل حماية الفساد في لبنان. وهذا تطوّر لم يكن في الحسبان سابقاً.
ما زالت الفرصة متاحة للحزب لتفادي الفتنة السنّية الشيعية عبر تبنّي خطاب وطني تحرّري يُعيد بناء الدولة عبر رفع التغطية عن الفاسدين عند الحلفاء كما عند الخصوم وعبر المباشرة بإجراءات اقتصادية ومالية تعيد الثقة للمواطن اللبناني. وبإمكان الحزب كسب ثقة المتردّدين عبر الحوار مع المنتفضين ضد الفساد وتردّي الأوضاع المعيشية. كما يمكن للحزب التنديد بتصرّفات القطاع المصرفي، الرسمي والخاص، في تعامله مع جمهور المودِعين. كما يمكن للحزب عرض أفكاره للخروج من المحنة الاقتصادية والمالية. ففي هذه الملفّات لا ندري ما هي رؤية الحزب. لم يعد من الممكن الانتظار فتصحيح الوضع الاقتصادي والاجتماعي هو الذي يضمن الاستقرار والسلم الأهلي وليست التفاهمات مع شخصيات برهنت عدم كفاءتها في إدارة البلاد. اللبنانيون بمختلف تكويناتهم بانتظار مَن سيقود ذلك. وخلافاً لما أعلنه الأمين العام لحزب الله فإن مفهومنا لحكومة «اللون الواحد» ليس حكومة الأكثرية النيابية بل حكومة الوطنيين والأحرار والنزيهين وأصحاب الكفاءة.
إعادة تكليف الرئيس الحريري الذي تولّى ثلاث مرّات تلك الرئاسة وفشل فشلاً ذريعاً في إنجاز أي إصلاح اقتصادي ومالي واجتماعي وسياسي يعني تكرار الفشل، وهذا هو تعريف الجنون عندما نتوقع نتائج مختلفة للتجارب نفسها. إن إعادة تكليفه مرّة رابعة على أساس أنه الوحيد الذي يستطيع التكلّم مع «المجتمع الدولي» هو رهان خاسر، لأن ذلك «المجتمع» ساهم في الحرب الاقتصادية على لبنان لإخراج حزب الله من الحكومة تمهيداً لرفع أي غطاء وطني عنه وحشره في خانة «الإرهاب». الخيارات التي تكلّم عنها سماحة السيد حسن نصر الله في خطاب سابق هي الخيارات الصحيحة. فالتوجّه إلى الشرق بدلاً من الغرب هو الطريق الصحيح. لذلك لا بدّ من طاقم سياسي في الحكومة يستطيع تحمّل المسؤولية في ذلك دون الرضوخ للابتزاز والتهديد الخارجي.
*اقتصادي وكاتب وباحث سياسي والأمين العام السابق للمؤتمر القومي العربي.