التقرير الدوري لمراكز الأبحاث والدراسات الأميركية* ترامب باقٍ والعزل يسقط بالتصويت ضدّه في مجلس الشيوخ
انشغل المشهد السياسي الأميركي برمته في مجريات التحقيقات داخل اللجنة القضائية في مجلس النواب، في سياق تقديم تهم للرئيس ترامب تحيله إلى المحاكمة الرسمية داخل مجلس الشيوخ ومن ثم ربما صدور قرار بعزله.
سيستعرض قسم التحليل حيثيات ذلك المشهد، وخيارات الحزبين المتاحة والممكنة، وترجيح مخرج يتفق عليه الطرفان يحفظ ماء وجه المدعي، الحزب الديمقراطي، بأنه عازم على التصدّي للرئيس ترامب؛ والحزب الجمهوري الذي سيكون بوسعه الظهور بمكانة المدافع عن المؤسّسة الرئاسية وعدم تعريض الرئيس الجمهوري لقرار عزل لا زالت البلاد تعاني من تبعاته حين اتخاذه عام 1974 ضدّ الرئيس ريتشارد نيكسون.
حروب أميركا
سخرت مؤسسة هاريتاج من خصوم الرئيس الأميركي لترويجهم مصطلح “لا للحروب اللامتناهية”، مؤكدة أنّ سياسة البيت الأبيض الراهنة تسير بعكس تلك المقولة التي نفذها الرؤساء السابقون (في إشارة مبطنة للرئيس أوباما)، وما يميّز الرئيس ترامب، حسب تفسير المؤسسة، هو “براعته في تطابق الانتشار الأميركي على مستوى العالم بما يؤمّن المصالح القومية الأميركية”. وأوضحت أنّ خصوم ترامب يسنّون رماح انتقاداتهم ضدّ سياسته المتبعة حيال سورية “لكنها ببساطة ليست حربنا نحن.. ولن نكون طرفاً في الأزمة، كما أننا لم نتخلّ عن مسؤولياتنا” هناك.
روسيا
أعرب المجلس الأميركي للسياسة الخارجية عن قلقه من عودة روسيا للشرق الأوسط وترفعها لمرتبة “دولة يصعب الاستغناء عنها.. باعتمادها سلسلة خطوات استراتيجية بدهاء”. وأوضح أنّ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين “استغلّ جملة فرص جيوسياسية جديدة وغير متوقعة في الإقليم لتعزيز حضور بلاده بشكل كبير هناك”. وأردف بأنّ قرار الرئيس الأميركي “المفاجئ للانسحاب من سورية كان نعمة للكرملين والدخول على خط الوسيط بين الحكومة السورية والكرد.. وتحسين سمعة روسيا كشريك استراتيجي يمكن الاعتماد عليه؛ فضلاً عن انفتاحها على تركيا وترسيخ تفاهمات ثنائية أبعدت الولايات المتحدة عن المشهد الاستراتيجي في الاقليم”.
في السياق عينه، خشية أميركا لعودة روسيا، حث معهد واشنطن صنّاع القرار على التصدّي لتمدّد موسكو لا سيما “في ليبيا.. التي لم تحظ قطّ بالاهتمام الأميركي الذي تستحقه سواء من قبل إدارة ترامب أو إدارة أوباما قبلها”. وحذر أيضاً من أنّ مجرد “السماح بتدخل روسيا في ليبيا لتقويضها استراتيجية الأمن القومي الأميركي؛ التي تستند في عهد ترامب إلى التنافس بين القوى العظمى ومواجهة النفوذ الروسي والصيني”. وفي الشق السياسي، ناشد المعهد الإدارة الأميركية “دعم مؤتمر برلين الذي يهدف إلى توحيد الدعم الدولي لوقف إطلاق النار وإعادة عقد حوار سياسي ليبي. ويجب على الولايات المتحدة أن تعتمد بشدة على شركائها في أبوظبي والقاهرة وأنقرة”.
إيران
تناولت مؤسسة هاريتاج الاحتجاجات الشعبية في إيران “وتمدّدها تدريجياً إلى العراق ولبنان” بزعمها أنّ الزخم الجماهيري كان تعبيراً عن “رفض تعاظم النفوذ الإيراني” في البلدين. وأوضحت أنّ الاحتجاجات في إيران انطلقت بعد رفع أسعار الوقود “وتخفيض الدعم الرسمي للمحروقات نتيجة العقوبات الأميركية القاسية”. وخلص بالقول إنّ القيادة الإيرانية اختارت “مسار المواجهة مع الولايات المتحدة، وتهديد جيرانها وسخاء الدعم لوكلائها؛ عوضاً عن السعي لرفع العقوبات عبر الانخراط ديبلوماسيا وتقديم التنازلات”.
سلط مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية الضوء على الترسانة الصاروخية لإيران “ونشرها في الإقليم تطبيقاً لاستراتيجيتها بتسليح وكلائها بالصواريخ للتحرّش وصرف الأنظار وردع خصومها الإقليميين، وتمدّدت لتشمل طرفاً ثالثاً – قوات الحشد الشعبي في العراق”. واستدرك بالقول إنه “لا يجوز اعتبار كامل هيكل الحشد بأنه وكيل لإيران”، نظراً لتعدّد مكوناته وولاءاتها التي “تضمّ أكثر من 50 مجموعة من الميليشيا، بعضها يعدّ حليفاً لطهران”.
زعم المركز الأمني لأميركا الجديدة أنّ إيران هاجمت “ناقلات النفط (ومرافقه السعودية) في محيط مضيق هرمز رداً على تصاعد حدة التوتر مع الولايات المتحدة رمت لإرسال رسالة للولايات المتحدة ودول الخليج والمنظومة الدولية بأنّ استراتيجية خنق إيران اقتصادياً لن تكون بدون ثمن”. وأضاف أنه ينبغي النظر بجدية عالية لجهود إيران ومفاعيلها التي ستنجم عن أيّ مواجهة عسكرية “بين طهران وواشنطن وتداعياتها على اسعار النفط العالمية”.
الراصد للمشادات والاصطفافات السياسية في واشنطن، في الآونة الأخيرة، يذهب لنتيجة مفادها تشبّث الحزبين بموقفهما واستمرار التصادم بينهما، وتسديد أكبر قدر ممكن من الإهانة وتسجيل النقاط ضدّ الخصم. بيد أنّ القراءة الفاحصة والعملية لطبيعة عمل المؤسّسة الحاكمة، بامتداداتها ثنائية الحزبية، تشير إلى قدر أعلى من الاتفاق بينهما، على قاعدة صون النظام السياسي وتقاسم السلطة بالتفاهم.
في أوج الجدل الصاخب والانقسامات الحادة التي واكبت جلسات الإعداد لتقديم لائحة اتهام ضدّ الرئيس ترامب، في الأيام القليلة الماضية، واصل قادة الحزبين العمل على تنفيذ المهام المطلوبة، لا سيما مشاريع القوانين المتعددة المطلوبة؛ وفي السياق عينه الاستمرار في البحث عن مخارج وحلول لما قد يترتب على إجراءات محاكمة الرئيس في مجلس الشيوخ.
واتفق الطرفان في مجلس النواب “المصادقة” على مشروع موازنة الدفاع للعام المقبل دون ضجيج، مطلع الأسبوع الحالي، قيمتها 738 مليار دولار شملت بنداً صريحاً بحق الرئيس تحويل مبالغ يراها ضرورية لتمويل جداره العازل مع المكسيك، بالإضافة إلى “ميزانية طوارئ” بلغت 5 مليارات دولار، نتيجة التصويت كانت 377 صوتاً مقابل 48؛ توزعت 188 للديمقراطيين و 189 للجمهوريين.
تلك السردية نراها ضرورية لسبر أغوار تفاهم أشدّ وطأة وخطورة توصل اليه قادة الحزبين يتعلق بمخرج مناسب لإجراءات المحاكمة، استثنت الرئيس ترامب على الأرجح، كما يتردّد في الغرف المغلقة.
الاتفاق يستند إلى خيارين يؤديان إلى نتيجة واحدة: عدم المسّ بالرئيس ترامب أو المنصب الرئاسي.
الخيار الأول والذي حظي بترحيب صريح من الحزبين كان باتجاه تقديم مجلس النواب توصية لنظيره مجلس الشيوخ باصدار توبيخ رسمي للرئيس ترامب استناداً للائحة الاتهام المقدّمة لا ينطوي على عقوبة محدّدة، من شأنه تفادي إحراج وانقسام جديد في صفوف الحزبين على قاعدة كيفية مواجهة نبض القواعد الشعبية في الدوائر الانتخابية المعنية.
الخيار الثاني والأكثر حظاً تمّ تداوله بين رئيسة مجلس النواب، نانسي بيلوسي، ورئيس مجلس الشيوخ، ميتش ماكونيل وزعيم الأغلبية الجمهورية النافذ السيناتور ليندسي غراهام، مفاده تقديم مجلس النواب لائحة اتهام لإجراء المحاكمة رسمياً لمجلس الشيوخ، يبادر الأخير للتصويت على بند يقتصر على التصويت على قبول تنفيذ إجراء المحاكمة من عدمه. وبما أنّ الأغلبية البسيطة هي لصالح الحزب الجمهوري، سيسقط التصويت على هذه الجزئية وينتهي الأمر، ويعود كلّ إلى موقعه.
ما عزز الخيار السابق لجوء رئيس اللجنة القضائية في مجلس النواب، جيري نادلر، في اللحظات الأخيرة ليوم الخميس 12 كانون الأول/ ديسمبر، تأجيل التصويت على بند لائحة الاتهام لليوم التالي، وكان باستطاعته فعل ذلك كما وعد في بداية الجلسة.
أيضاً تصريح السيناتور الجمهوري ليندسي غراهام في مسافة زمنية متقاربة مع نادلر بأنه لا يحبّذ تعريض البلاد لجلسات محاكمة إضافية “ما أريده هو نهاية هذا الأمر”.
المساعد الأيمن لرئيس مجلس الشيوخ، الجمهوري جون ثون، أبلغ يومية واشنطن بوست، 11 ديسمبر، عن عدم استساغة قادة الحزب المضي في إجراءات “محاكمة مطولة” تعرض البلاد لشأن لا طائل لها به.
تلك الترتيبات جاءت بالتزامن مع صدور تقرير في غاية الأهمية قام به المحقق العام لمكتب التحقيقات الفيدرالي – اف بي أي، مايكل هورويتز، حول تحقيقات “أف بي آي” في الحملة الانتخابية للرئيس ترامب وآلية التنفيذ وملاحقة مسؤولي الحملة؛ وهي المسألة التي ما فتئ ترامب يشير إليها بأنها تمّت بصورة غير قانونية.
ومما جاء في التقرير أنّ مكتب التحقيقات “ارتكب أخطاء منهجية كبيرة وقام بإخفاء معلومات هامة.. ومضى في توسيع صلاحياته وتمديد قوسها باتجاه تحقيق غير مسبوق لمرشح رئاسي”. والأهمّ ربما استنتاجه بأنّ مسؤولي مكتب التحقيقات قدّموا بيانات خاطئة “في تسع مناسبات” لاستصدار قرار قضائي يخوّلهم الاستمرار بالتحقيق؛ وكذبوا عمداً أمام القاضي الخاص بذلك.
تورّط وكالة الاستخبارات المركزية، ومديرها السابق جون برينان، بالتجسّس على حملة الرئيس ترامب الانتخابية ثبّته الرئيس ترامب خلال تصريحات متعدّدة متباعدة. تقرير هورويتز لا يشمل التحقيق بالوكالة، لكنه يدلّ على ممارسة برينان ضغوطاً شديدة على مكتب التحقيقات الفيدرالي (إبان رئاسة جيمس كومي) لوضع حملة ترامب تحت المراقبة؛ وبأنّ برينان “كذب سبع مرات” على الجهاز القضائي لإبقاء حملة التجّسس فاعلة ضدّ حملة ترامب.
من الثابت أنّ الرئيس ترامب وأعوانه المؤيدين سيعكفون على قراءة التقرير بالتفصيل واستغلال “ما لم يصرّح به” معده هورويتز لاستهداف خصومه الديمقراطيين؛ ورئيسة مجلس النواب تدرك ذلك ملياً.
تقلص مطالب الديمقراطيين
اختار الحزب الديمقراطي مساراً تصادمياً مع الرئيس ترامب منذ البداية وتحريض قواعده الانتخابية لدعم توجهه بمحكمة وإقصاء الرئيس.
اعتقد الحزب أنّ ما في جعبته من قضايا تكفي لاتهام الرئيس بدءاً بتجديد إثارة المخاوف من روسيا وإلصاق التهم بتواطؤ ترامب مع موسكو في التأثير على نتائج الانتخابات الرئاسية الماضية، متكئاً أيضاً على تقرير التحقيق المطول السابق للمحقق الخاص، روبرت موللر، وفريقه بهذا الشأن؛ ومن ثم إضافة مسألة عرضه للمنفعة المتبادلة مع نظيره الرئيس الأوكراني الجديد، فلاديمير زالينسكي.
وسارت جلسات التحقيق الأخيرة وفق تلك القواعد الثابتة باعتقاد الحزب، وفجأة غابت مسألة التورّط مع روسيا تماماً عن المشهد، وبقيت أوكرانيا على اللائحة أضيف إليها في اللحظات الأخيرة اتهام ترامب بإعاقة عمل الكونغرس نتيجة رفضه الاستجابة لطلب اللجان المتعددة وطلباتها بتقديم وثائق وشهادات لمسؤولين في البيت الأبيض.
عدد محدود من قادة الحزب الديمقراطي، على رأسهم نانسي بيلوسي، أدركت ما ينتظرها من متاعب وأزمات في حال مضت إلى نهاية المسار، لا سيما تعريض أبرز قادته ومسؤوليه الامتثال للمسائلة أمام مجلس الشيوخ. وأدلى الرئيس ترامب بدلوه منذ البداية بأنه كطرف له الحق في طلب مثول كلّ من المرشح الرئاسي جو بايدن ونجله، وربما الرئيس أوباما، والمدير السابق للاستخبارات المركزية جون برينان، وآخرين.
في ظلّ تلك الفرضية، استكمال إجراءات المحاكمة في مجلس الشيوخ، لن يكون بوسع المجلس توجيه تهمة بعزل الرئيس كون الأمر يتطلب 67 صوتاً من مجموع مئة عضو. وبحسبة بسيطة، سيربح الرئيس ترامب الجولة.
بل الأخطر تسليم الحزب الديمقراطي خصمه الجمهوري سلاحاً مميتاً باستجواب بايدن وآخرين، والمغامرة بالكشف عن تورّط أعضاء ورسميّين آخرين في مسألة أوكرانيا، وما ستتركه من تداعيات على سير الانتخابات المقبلة. والرابح الوحيد هو الرئيس ترامب.
لتلك الأسباب مجتمعة، محاكمة الرئيس ترامب لن تمضي قدماً بسلاسة ونتائجها غير مضمونة؛ فضلاً عن الضرر الذي سيلحق بهيبة واشنطن على الصعيد العالمي في ظلّ اتفاق الحزبين بصورة مطلقة على ضرورة “توجيه بوصلة واشنطن لمواجهة روسيا والصين”، وتخصيص الموارد اللازمة لتلك الاستراتيجية طمعاً في ثني أيّ طرف دولي آخر عن مشاركة الولايات المتحدة هيمنتها الأحادية.
*نشرة دورية تصدر عن وحدة “رصد النخب الفكرية” في مركز الدراسات الأميركية والعربية