النظام اللبناني بين بدعة الميثاقيّة وحقيقة الدستور
العميد د. أمين محمد حطيط*
قام النظام السياسي اللبناني على دستور مكتوب وميثاق عرفي، حدّد الأول أسس ومبادئ الحكم وحدّدت في الثاني الأعراف والصيغة العملية للتطبيق، حيث كرّست صيغة طائفية لتقاسم السلطة بين المسيحيين والمسلمين. وقام النظام السياسي منذ ذلك الوقت على ثنائية سياسية مارونية – سنية تختار من الطوائف الأخرى من ترتئي مناسباً لتمثيل طائفته عملاً بالنص المؤقت. وقد أدى هذا العرف الذي بات أقوى من الدستور المكتوب إلى تركيز السلطة في يد مذهبين الموارنة يعاونهم السنة وهمّشت بقية الطوائف والمذاهب التي كان يلقى اليها ببعض الفتات، وكان الأكثر ظلماً الشيعة الذين كانوا قد بلغوا عدداً يتقدّم الموارنة ويتقدّم السنة أيضاً، ولكن رغم حجمهم فقد جرى تهميشهم إلى الحدّ الذي كانت تشكل فيه حكومات من دونهم (كما جرى في الحكومة الرباعيّة في عهد فؤاد شهاب التي شكلت من 2 موارنة و2 سنة فقط).
أدّى سوء تطبيق الدستور واستئثار طوائف بالسلطة إلى خلل في التوازن السياسي في الحكم ودفع لبنان إلى عدم الاستقرار والانفجار دورياً (أحداث 1952 – 1958 – 1969 – 1975 – 1984 – 1989) ما فرض مراجعة النظام السياسي لتطويره نحو نظام وتطبيق أقلّ ظلماً، فكان اتفاق الطائف الذي عالج خلل تركيز السلطة التنفيذية في يد رئيس لا يسأل، وخلل استبعاد مكوِّن عن السلطة أو تهميش آخرين، واعتمد البند «ي» في مقدمة الدستور الذي ينص على عدم شرعية السلطة التي لا تراعي العيش المشترك، واعتمد كتدبير مؤقت المناصفة في وظائف الأولى بين المسيحيين والمسلمين في الوظائف العامة وكرس بشكل عرفي أيضاً توزيع رئاسات الجمهورية ومجلس النواب والحكومة بين المذاهب الكبرى.
أما في التطبيق، فكان انحراف عن النص وإنتاج للظلم وإخلال في العدالة ودفع نحو عدم الاستقرار، حيث تميّزت مرحلة ما بعد الطائف بفقدان الديمقراطية الحقيقية وتوزع الدولة حصصاً بين أشخاص لا يتجاوز عددهم أصابع اليد الواحدة فشاع الفساد ونهب المال العام وتراكم الدين العام حتى لامس المئة مليار دولار، تمّ ذلك على مرحلتين: الأولى كانت في ظلّ ما أسمي تهميش الوجود المسيحي في السلطة والثانية في ظلّ سيطرة «الحريرية السياسية» على الدولة بشكل شبه كامل مع وجود محدود للآخرين تخللتها فترة سنة ونصف حكمت فيها حكومة من غير شيعة.
رداً على هذا الإخلال، قام المتضررون بالعمل بما يحمي مصالحهم فكان تفاهم مار مخايل بين حزب الله والتيار الوطني الحر ثم كان إدخال التيار الوطني الحر إلى الحكومة التي أقصي عنها رغم حجمه، ثم كان 7 أيار وردة الفعل الدفاعية التي نفذها حزب الله حماية لمقاومته ثم كان إسقاط سعد الحريري من رئاسة الحكومة لأنه قابل الرئيس الأميركي متجاوزاً مجلس الوزراء ثم كان انتخاب رئيس التيار الوطني الحر رئيساً للجمهورية وكانت الضربة القوية للحريرية السياسية بقانون انتخاب قائم على النسبية التي أدّت إلى تقليص نفوذ الحريري مع بقائه الممثل الأقوى للسنة دون أن يكون الوحيد (له 17 من 27 ).
بنتيجة هذه التحولات ودرءاً لمخاطر العودة لتهميش أحد أطلق مصطلح جديد في الحياة السياسية اللبنانية، هو «الميثاقية»، وأسند إلى نص الفقرة «ي» من الدستور التي تتحدث عن عدم شرعية أي سلطة لا تراعي العيش المشترك والمادة 95 من الدستور التي تقول بحقوق الطوائف في السلطة والإدارة وبشكل مؤقت. وقامت هذه «الميثاقية» المبتدعة على قاعدة «السلطة والحكم لمن هو اقوى تمثيلاً في طائفته»، واعتبر غير ميثاقي وبالتالي غير دستوري تولي السلطة في الرئاسات الثلاث وفي الحكومة مَن ليس هو الأقوى في طائفته، واعتبرت جلسات مجلس النواب غير ميثاقية وبالتالي غير دستورية إذا غاب عنها المكوّن الأكثري في الطائفة ما تسبّب في إنتاج واقع تعطيلي في الحياة الدستورية أطاح بالدستور وأطاح بالأكثرية الوطنية التي أولاها الدستور التشريع واختيار رئيس الجمهورية والحكومة. وأطاح ذلك بالديمقراطية ومنع تداول السلطة التي تركّزت في يد 5 أو 6 أشخاص انقلبوا الى ملوك يملكون مدى الحياة ويشكلون من غير اتفاق معلن «مجلس حكم» واقعي يعلو الدستور ويتولى السلطة الفعلية، وأصبح بمقدور الطائفة أن تختار مَن تريد وتفرضه على كل لبنان في مواجهة الأكثرية الوطنية الدستورية.
في ظل هذا الواقع حلّ استحقاق تكليف شخص بتشكيل الحكومة بعد استقالة «الأقوى في طائفته«. وهنا كانت المعضلة الرئيسية وظهرت الفضيحة، حيث بات كل لبنان أسير قرار فرد هو «الأقوى في طائفته»، رغم أنه لا يمثل في طائفته أكثر من 60% وأن طائفته لا تشكل أكثر من 32% من اللبنانيين انتخب منها نسبة لم تتجاوز الـ 40% من الناخبين ما يعني أنه لا يمثل أكثر من 8% من اللبنانيين أما من لديه 69 نائباً ويمثلون أكثر من 60% من اللبنانيين فلا قيمة لرأيهم، حسب بدعة الميثاقية تلك، فهل يعقل ذلك أو يمكن قبوله؟
بالاستناد إلى المنطق السليم وقواعد العدالة والديمقراطية الصحيحة نقول إنّ هذا الأمر غير مقبول، لأنه نظام منفصل عن الدستور نصاً وروحاً الذي يعتمد نظام حكم الأكثرية الوطنية وهو وإن كان لحظ وجوب تمثيل الطوائف فإنه اشترط ان لا يمسّ ذلك بالمصلحة العامة.
وعليه نرى أنّ التمسك ببدعة «الميثاقية» بالتفسير المتقدّم وإقامة مجلس الأقوياء في الطوائف وإرساء حكمه فيه تعطيل لمبدأ تداول السلطة والإطاحة بالديمقراطية؛ وهي أمور مرفوضة لتعارضها مع الدستور والنظام الديمقراطي البرلماني. فما المخرج؟
قبل إبداء الرأي، ننوّه بما آلت اليه عملية تكليف من يشكل الحكومة واختيار غير «الأقوى في طائفته»، ما شكل غلبة للدستور المكتوب على الأعراف المُفسدة له وإعادة الدور للأكثرية الوطنية وأسقط بدعة الأقوى في طائفته. وهذا يشكل إنجازاً كبيراً يجب التمسك به ويجب التحذير من الإصغاء إلى الأصوات التي تطعن بشرعية التكليف بحجة عدم الميثاقية، كما يجب الحؤول دون عودة نغمة «الميثاقية» بالتفسير الذي كان البعض ولا زال متمسكاً به.
نضيء على هذه السلبيات وخطورتها لا لنقول بالاستغناء فوراً عن المادة 95 ولا للإطاحة بالفقرة «ي» من مقدمة الدستور، بل من أجل البحث عن حلّ يتوافق مع الديمقراطية نوعاً ولا يسمح بتشكل ديكتاتورية الأقلية النيابية حتى ولو كانت أكثرية في طائفتها، إذ من غير المسموح أن يكون مجلس نيابي مؤلف من 128 أسير قرار 17 من الأصوات ولا يجوز ان تمتلك هذه الأقلية حقاً حصرياً بتسمية رئيس الحكومة وتفرضه على لبنان.
وعليه نرى وحتى يوضع موضع التنفيذ إنشاء مجلس الشيوخ وتلغى الطائفية السياسية، وجوب تطبيق الدستور والتوقف عن إطلاق البدع البعيدة عن النص والعدالة والمنطق والعمل بما يلي:
ـ عدم استبعاد أيّ طائفة عن مؤسّسات الحكم والسلطة (حكومة ومجلس نواب) بما في ذلك الطائفة العلوية التي تُحرم حتى الآن من مقعد وزاري مهما كان حجم الحكومة.
ـ عدم الخضوع لديكتاتورية الأقلية التي توصف بأنها الأكثرية في الطائفة. وبالتالي لا يصحّ العمل بقاعدة «يحكم الأقوى في طائفته»، بل على الطائفة أن تقدّم للأكثرية الوطنية أكثر من خيار وأكثر من شخص، وعليه يمكن الأخذ بقاعدة «غير المرفوض من طائفته» وهنا يمكن اعتماد مبدأ تمثيله لنسبة 10 أو 15 % من طائفته، أيّ يكون للأكثرية الوطنية أن تختار بين 7 او 10 أشخاص.
ـ والأمر ذاته يطبّق على جلسات مجلس النواب، حيث لا يطلب حضور المكوّن الأقوى او الأكثر تمثيلاً في الطائفة بل يطلب تمثيل الطائفة بنسبة 10 او 15% من النواب يؤكدون حضورها ويوصلون.
ـ وحتى لا تكون ولاية الأشخاص مدى العمر تحت عنوان الأقوى في طائفته، يجب ان يوضع حدّ زمني لتولي السلطة العامة في الرئاسات والمجلس النيابي والحكومة كأن نحدّد مثلاً سنّ الـ 75 للرئاسات والوزراء وحدّ 3 أو 4 دورات نيابية في مجلس النواب. * أستاذجامعيوباحثاستراتيجيمنلبنان.