«الوهراني» للمخرج الجزائريّ الياس سالم… أبعد من الصورة التقليديّة الرسميّة لحرب التحرير
الجزائر هي الدولة الوحيدة التي عرض لها فيلمان داخل مسابقة «مهرجان قرطاج السينمائي» الذي اختتم أول من أمس، الأول هو «الوهراني» لالياس سالم، والثاني «لوبيا حمراء» للمخرجة ناريمان ماري.
«الوهراني» هو الفيلم الروائي الطويل الثاني لمخرجه الذي سبق أن قدم قبل ست سنوات فيلم «مسخرة»، محققاً نجاحاً كبيراً، واعتبر عودة قوية إلى سينما النقد الاجتماعي الساخر، ويمكن القول إن «الوهراني» هو أول فيلم جزائري يتناول حرب التحرير وما بعدها بعيداً عن الصورة التقليدية الرسمية التي تمجد «أبطال الثورة»، وهي الصورة التي دأبت الأفلام الجزائرية على الترويج لها منذ الاستقلال بتنويعات مختلفة. أما الياس سالم في «الوهراني» فإنه يغوص تحت جلد الصورة البراقة اللامعة لكي يكشف بحسّ نقدي رفيع الثمن الفادح الذي كان يتعين أن يدفعه الفرد، بل الوطن كله، بسبب ما حصل من تجاوزات وانحرافات وانتهاكات لحقوق الإنسان الجزائري، ومن تغييب الوعي الممنهج الناتج من السيطرة الأحادية على السلطة، وسياسة تقسيم المنافع على «شركاء» الثورة الذين تحوّلوا من مقاتلين إلى نخبة أرستقراطية مستجدة تغترف وتنتهك وتمارس النهب المنظم وتحمي مكاسبها بالقمع.
يفتح فيلم الياس سالم الجرح الذي لم يُفتح قبلاً بهذه القسوة، بل بهذا الجمال الفني والصدق. ويقوم سيناريو الفيلم على ثلاث شخوص رئيسية هي جعفر وحميد وفريد. ويستخدم سالم أسلوب التداعيات في الزمان والمكان، منقّباً في الذاكرة ومستدعياً صوراً من الماضي، لتقديم صورة مجازية لما وقع في الجزائر منذ إعلان حرب التحرير ضدّ الاستعمار الفرنسي إلى ما بعد الاستقلال، أي أن الحوادث تُروى على مدار ثلاثين سنة، من منتصف الخمسينات إلى منتصف الثمانينات.
ثمة بعض التشابهات أو التقابلات المقصودة بين الشخوص السينمائية التي نراها في الفيلم، وشخصيات تاريخية معروفة لعبت دوراً بارزاً في تاريخ الجزائر الحديث، لكنها ممزوجة بالكثير من التفاصيل المتخيلة بحيث يخلق الفيلم واقعه ولا يعيد تجسيد الواقع الفعلي.
الشخصية الأولى هي شخصية الوهراني جعفر، وهو نجار ريفي ونموذج للوطني الجزائري الذي يحتم عليه واجبه ترك أسرته وزوجته والالتحاق بجيش التحرير الجزائري الشعبي، محارباً في الجبال مع رفيقيه حميد وفريد، وعائداً بعد خمس سنوات إلى بلدته إثر انتصار الثورة الجزائرية وخروج الفرنسيين من الجزائر وتسليمها إلى القيادات الوطنية الشابة، لكنه يعلم بوفاة زوجته «ياسمين» التي يبدو أنها فضلت الموت بعدما اغتصبها مستوطن هو ابن ضابط فرنسي كبير قتله جعفر خلال المعارك لكي ينقذ حياة صديقه حميد. وأنجبت «ياسمين» طفلاً هو ثمرة الاغتصاب من ذاك الفرنسي، ولد أشقر ذو عينين زرقاوين، حتى بات مادة خصبة للسخرية في البلدة من جانب الأطفال الآخرين، فهو «فرنسي» المظهر تماماً لكنهم أطلقوا عليه إسم «بشير». وأمام هذه الحقيقة يصرّ جعفر على التمسك به ومنحه اسمه وتولّي تربيته لكونه من صلبه، لكنه في الوقت ذاته يتمزق داخلياً لحقيقة أن «بشير» ليس ولده، بل «نتاج الاغتصاب» أي جزء من التركة السلبية الشائنة التي تركتها فرنسا للجزائريين ويتعين عليه التعايش معها.
يدور الفيلم إذن في منطقة تقع بين التاريخي والخيالي، الواقعي والرمزي، الذاتي والموضوعي، الخاص والعام. يعبر الياس سالم عن موضوعه من خلال سياق سينمائي بديع ودقيق يتميز بالوضوح والإيقاع السلس، فيبدو قافزاً بالسينما الجزائرية من طابع «سينما المؤلف» التي تميل إلى الشطحات الفنية ويشوبها طابع الهواة أحيانا، إلى السينما الاحترافية المكتملة. يتقلد «الوهراني» منصباً عسكرياً رفيعاً في الدولة يذكرنا، على نحو ما، بشخصية هواري بومدين، بمثالياته وتقشفه وتزمته الشخصي وقسوته على نفسه وعلى الآخرين . ويبدو «جعفر» متفائلاً لدى بلوغه في يقينه درجة الإيمان باليوتوبيا، حول مستقبل الجزائر، فهو يتطلع إلى امتلاك البلاد القدرة على تصدير الأخشاب إلى كندا، وعلى صناعة مركبة تطلقها إلى الفضاء. أما «حميد» فيبدو أكثر برغماتية، فهو أقرب إلى السياسي الانتهازي الذي يملك لساناً فصيحاً وقدرة على الخطابة والإقناع، لكن ديماغوجيته تبدو مكشوفة أمام صديقه «الوهراني».
يتقلد حميد المنصب السياسي الأهم في الدولة -ربما يرمز إلى شخصية بن بلا- وتدريجياً يتنكر حميد للمثاليات القديمة، وتتفتح شهيته لحياة الثراء، فيتزوج أميركية، ويقيم في أحد قصور الفرنسيين، ويقبل يختا فخماً من رجل أعمال فرنسي يرغب في الحصول على صفقة احتكارية ضخمة، يفرض على جعفر قبولها بدعوى أن الفرنسي سبق أن ساند الثورة ودعمها بالمال. أما الرفيق الثالث «فريد»، الأكثر براءة ونقاء ثورياً، فهو يرفض السياسة التي يتبعها «حميد» ويعارضه بشدة، وخلال مناقشة حادة بينهما فوق سطح اليخت يقفز في الماء مفضلاً السباحة إلى الشاطئ على البقاء على متن اليخت الذي يرى قبوله انحرافاً صريحاً عن المبادئ الثورية، فهو ما برح مؤمناً بالفقراء وبضرورة إحداث نوع من التوازن والتنمية التي تحقق رفع مستوى المعيشة للناس. يؤيده في ذلك «جعفر» ويسخر من أفكاره «حميد». الشخوص الثلاث تختصر على نحو ما الأجنحة السياسية الثلاثة: اليمين والوسط واليسار.
يصور الفيلم كيف تأكل الثورة أبناءها، وكيف يتحول «حميد» ضد «فريد» فيأمر باعتقاله ويموت تحت التعذيب، وهنا تصل الأمور بين «جعفر» و«حميد» إلى القطيعة النهائية. وفي السياق نفس يتابع الفيلم ببراعة ومن دون الخروج على الدراما المحورية التي تدور حول شخصية «الوهراني» وردود فعله على ما يحدث حوله، كيف يتعرض صحافي جزائري للتعقب. ثم الاعتقال والتعذيب الرهيب من جانب جهاز الاستخبارات بتعليمات من «حميد» بدعوى حماية صورة الثوار، إذ كان الصحافي يسعى إلى كشف حقيقة «بشير»، النبتة الفرنسية، ثمرة الاغتصاب!
يطرح الفيلم الكثير من التساؤلات حول هوية الجزائر وانتمائها: هل هو التوجه العربي الإسلامي «حميد» يرغب في تلميع هذه الصورة، إنما لأسباب انتهازية ، في حين يتحفظ زملاؤه الذين يرون أن الجزائر تتكون من خليط عرقي وثقافي بل ولغوي.
تجدر الإشادة بمستوى التصوير، وبراعة مدير التصوير بيار كوتيرو الذي نجح في التعبير بصرياً من خلال الضوء والزوايا عن التباين بين لقطات الماضي، ومشاهد ما بعد الثورة، وصولاً في تعامله التدريجي مع الضوء إلى تلك النهاية الحزينة للحوادث التي لا تنهي القصة بل تفتح قوساً كبيراً وتتوقف. تكتسب ألوان الماضي صبغة لونية قوية، حارقة، تتراجع تدريجياً إلى برودة اللون الأزرق الفاتح والأبيض في مشاهد الليل بالجبال، لكنها تعود إلى الألوان الصاخبة الاحتفالية في مشاهد ما بعد التحرير.
وداخل منزل «حميد» تبدو الإضاءة ساطعة فيظهر مثل نجم سينمائي تحيط به الأضواء، بينما تبدو إضاءة المشاهد التي يظهر فيها «جعفر» بعد تراجع ثقته في «حميد» مليئة بالظلال، تحيط به إضاءة خافتة تظهر جانبا من وجهه في اللقطات القريبة «كلوز أب» التي تلمع فيها عيناه. ويتميز الشريط الصوتي بالأغاني الشعبية القديمة التي تعبر عن الروح الجزائرية عامة. وتجدر الإشادة أيضاً بأداء الممثلين جميعاً، وفي مقدمهم خالد بن عيسى في دور «حميد». كما يتفوق الياس سالم على نفسه في دور «جعفر الوهراني» مضفياً عليه الكثير من التوتر والعصبية الطبيعية التي تتوافق ومزاج نجار خشن قادم من الريف قاتل في الجبال وعاد حالماً بالمستقبل المزدهر، فوجد البلاد تغرق في كابوس العنف والاغتيالات والتعذيب والفساد والانحرافات، كأن الثورة لم تكن.