جورج شتاينر: ما برحت أوروبا ترفض مواجهة جذورها البربريّة

كتب حسونة المصباحي: يحمل جنسيّتين، الفرنسيّة والبريطانيّة، ويتكلّم أربع لغات هي الهنغارية والفرنسيّة والألمانيّة والإنكليزية. إنهالكاتب جورج شتاينر الذي يتنقّل بيسر بين الثقافات القديمة والحديثة، وبين الأدب والفكر والتاريخ، ليبلور أفكاره ورؤاه حول العديد من القضايا المتصلة خاصة بأوروبا المتحضّرة و«البربريّة» في الوقت نفسه. أوروبا التي عاشت أهوال حربين عالميّتين وكوارث ومجازر كادت تقودها إلى الدمار والانقراض.

ولد جورج شتاينر في فيينا عام 1929. والواضح أن التأثيرات الأولى جاءته من جانب والدته التي تنتمي إلى إحدى أرقى العائلات في العاصمة النمساويّة. وهو يتحدث عنها قائلاً: «عبقرية أمي هي التي حدّدت مسار حياتي إذ كانت تتكلم عدّة لغات مثل الفرنسيّة والهنغاريّة والإيطاليّة والإنكليزيّة، وكان لها كبرياء جنونيّ خاصّ، وثقة عالية بالنفس».

أمّا والد جورج شتاينر المدعو فردريك، فكان محامياً لدى البنك المركزيّ النمساويّ. وعندما بدأت النازيّة تهدّد ألمانيا مطلع الثلاثينات من القرن الفائت، هاجرت عائلة شتاينر إلى فرنسا لتستقر في باريس، وكانت الحرب الكونيّة الثانية على وشك الاندلاع عندما شاهد الطفل جورج من شرفة الشقة التي كانت تقيم فيها عائلته تظاهرات «شوفينيين» فرنسيين كانوا يدعون إلى مناصرة النازيين. وفي لحظة ما اقترب منه والده ليهمس له بهدوء: «هذا يسمّى التاريخ، وليس عليك أن تخشى ما تراه!».

في نهاية الحرب الكونيّة الثانية عبّر الفتى جورج عن رغبته في العودة إلى باريس لمواصلة تعليمه، غير أن والده نصحه قائلاً: «انتبه يا ولدي العزيز، المستقبل للغة الإنكليزيّة، وإذا فكّرت في أن تكتب ذات يوم كتاباً فعليك أن تكتبه بلغة شكسبير وليس بلغة موليير!». واستجاب الابن لنصيحة والده. وأول كتاب ألفه كان بالإنكليزيّة، وكان عن تولستوي ودوستويفسكي. أما كتابه الثاني «موت التراجيديا» فسمح له باحتلال مكانة بارزة في مجال النقد الأدبي لا في أوروبا وحدها، بل في الولايات المتحدة الأميركيّة أيضاً. وفي هذا الكتاب يبحث انطلاقاً من أعمال إبداعيّة قديمة وحديثة عن الجوانب البربريّة في الحضارة الأوروبيّة التي أشعّت على العالم بعد القرون الوسطى.

بدءاً من ستينات القرن الفائت، وبفضل الشهرة التي أضحى يتمتع بها، عيّن شتاينر أستاذ كرسيّ في جامعة كامبريدج، ثم في العديد من الجامعات، مواصلا الكتابة في النقد والتاريخ والفكر الفلسفي. يحدّد رؤيته الفكريّة قائلاً: «أنا حتما ابن المفكر الفرنسيّ جوليان بيندا صاحب كتاب «خيانة المثقفين»، وكتاب «نهاية اللانهائي» الذي أعتبره أجمل وأروع من الأوّل. يقولون إن إصلاح خطأ في مخطوط لبيندا أهمّ من الحيلة ذاتها. غريزيّا، أومن بهذه القصّة الحمقاء. هناك رجال ونساء يمتلكون عبقريّة، وفي الآن ذاته يعرفون كيف يكونون مبدعين أو مفكرين، وكيف يظهرون قوّة أخلاقيّة وسياسيّة كبيرة. أعلم أنه لن يكون في استطاعتي أن أفعل شيئاً للميؤوس من شفائهم، وبالتالي ليست لديّ القدرة على أن أمسك محتضراً بيدي. لم أعمل قط في قسم خاصّ بالمعوقين. أمام «طبيب بلا حدود» قد يكون اختار هذا المسار عوض أن يصبح مرشحاً لجائزة نوبل للطب. أنا أصمت، ولا يحقّ لي أن أفتح فمي إذ لا أملك القوة، ولا الذكاء الذي يحتّمه العمل لإسعاد الآخرين. الذكاء ليس الكلمة المناسبة. أفضل «الغيريّة». في مكتبي الخاص، يحتلّ أرخميدس مكاناً مفضّلاً. وحذّروه من أنه قد يقتل، وكان في وسعه أن يهرب، غير أنه ظلّ يعمل لحلّ مشكلة لم تحل حتى هذه الساعة. كان يقول: «اتركوني أعمل في سلام!». وهكذا قتل».

بعدما أصدر فوكوياما، المفكر الأميركي من أصل ياباني، كتابه المشهور «نهاية التاريخ، عقب انهيار جدار برلين، علّق جورج شتاينر عليه قائلاً: «النظريات حول نهاية التاريخ تبدو لي عبثيّة، نحن حيوانات عنيدة جدّاً صلبة وجدّاً. نعاني من كوارث ونتكبّد خسائر في الأرواح. هذا صحيح. لكن الأمر المدهش أننا بعد مئة مليون ضحيّة في أوروبا بين شهر آب 1914 وأيار 1945، ما زلنا هنا جالسين بعضنا مع بعضنا الآخر، معافين تقريبا. ولا تزال الحياة متواصلة إلى حين نقول: إنها النهاية. ومن المؤكد أن التاريخ يتقدّم بسرعة على المستوى العلمي والتكنولوجي غير أنه بطيء التقدم في النواحي الأخلاقيّة. مع ذلك، هناك عدد كبير من الناس يموتون بالسرطان وبأمراض أخرى، ولا يزال الزكام شرساً مثلما كانت حاله في عهد يوليوس قيصر الذي كان يعاني زكاماً شبه دائم. ما الذي تغيّر؟ وفي أيّ وقت؟ مع ذلك، حين أقرأ مع طلابي نشيداً من أناشيد هوميروس، أو قصيدا من قصائد بيندا، أو مسرحيّة لأريستوفان، أشعر أنا وهم، بأننا نعيش الزمن نفسه الذي كانوا يعيشون فيه، ومعهم نضحك ونبكي. إذن يمكن القول إن هناك تغيّرات حدثت لكن على مستوى السطح فحسب، أما الروح البشريّة فلم تتغيّر!».

حول الجانب البربري في الحضارة الأوروبية، يقول شتاينر: «إلى هذا الحين لا تزال أوروبا ترفض مواجهة جذورها البربريّة. حديقة غوتهه الآسرة تقع قرب معسكر «بوخنفالد» الرهيب الذي قضى فيه كثيرون خلال الحقبة النازية. إذن علينا أن نتساءل عن العلاقة بين تاريخنا الثقافي الهائل والكبرياء البلا حدود لحضارتنا والبربريّة. أعتقد أن أوروبا المجسّدة في فلورنسا، وفي سان بطرسبورغ، وفي فايمار حملت في طيّات تاريخها السري والعلني بذوراً لا إنسانيّة عميقة ينبغي دراستها واستجلاء خلفياتها وتبعاتها».

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى