أربعون عاماً على الرحيل جوزف رزق الله.. «سيرة مناضل قومي» دروس ونضالات ومآثر..
} اعتدال صادق شومان
«إلى الوالد والرفيق جوزف رزق الله وكل الخالدين عطاءً واستشهاداً في سبيل سورية»..
بهذا الكلمات استهلت عائلة الرفيق المناضل القومي جوزف رزق الله سيرة الوالد والجدّ والرفيق في كتاب ضمّ بين دفتيه (420 صفحة) سيرته العائلية والنضالية التي تأخر إصدارها قرابة أربعين عاماً غداة رحيل عن عمر لم يناهز الستة والأربعين عاماً.. قضى جلّها سورياً قومياً اجتماعياً يخوض في تلافيف تجربة تميّزت بثراء نضالي كبير.
والكتاب – السيرة، بكل ما تضمن سياق سيرة حزب وقضية نستذكرها بجدارة الانتماء وثمار مجهود لجدول مهام خطيرة من حقبة حزبية مليئة بالصعاب الجسام عايشها جوزف رزق الله رفيقاً مندفعاً في الملمات، ومسؤولاً أولَ في «القيادة المؤقتة» للحزب في لبنان في السنوات المثخنة بالمشقة.. وما ضاق ذرعاً..
بين دفتي ملاحظات مكتوبة على وريقات متفرقة طرّزت أطراف بعضها بلون الاحتراق غداة غارات ليلية، ووثائق حزبية، وشهادات لرفقاء من عصف المرحلة دُمجت جميعا في سيرة بديعة، إحياءً لذكرى مواسم عز، وجنى «الناس يلي وقفت وصمدت»، ليحفظ لكل ذي حق حقه. من تلك الصفوة التي اختارت التصدّي بين كرّ وفرّ على أعتاب سجن أو «طفّاراً» يعتصمون في البراري.. استعداداً لجولات جديدة على درب صون الحزب.
إنه فعل انتصار على الذات ذاك الذي جسّده جوزف رزق الله في دفاعه عن منظومة القيم والمبادئ التي آمن بها، هو الخارج يانعاً طري العود من رطانة الأحزاب الطائفية الزائفة الى مقاصد جوهر الإيمان في اختياره حياته خطاً نضالياً على مبادئ الوجدان القومي والعدل الاجتماعي والنظرة المدرحية إلى الحياة والحق والكون..
من كتائبي متحمّس، وعضو في الشرطة الكتائبية بين الأعوام 1937 الى العام 1947، الى ضابط سوري قومي اجتماعي في صفوف الدولة «السورية» التي أعلنها سعاده وخرّجت ضباطاً في العام 1949 وكان الرفيق جوزف رزق الله أحد هؤلاء الضباط الذين كان يُعدّهم الحزب في تلك الفترة.. ليبقى رزق الله ممتشقاً «سلاحه القومي» الى لحظة موافاته السماء فقيداً إثر نوبة قلبية ألمّت به في 19 آذار 1970 نزيلاً بالسجن بجرم الطعن في «ذات الدولة» بوصفه لها «دولة مزرعة» ليرحل، وعلى ذمته أحد عشر اعتقالاً وعشرات الاستدعاءات وتاريخ جليل مسطّر بالتحدّي والصمود وإيماناً بالانتصار لم يلن.
وإكباراً لهذا التاريخ وحيثياته النضالية سما اسمه الى مصاف الشهداء في سابقة لم ينلْها في تاريخ الحزب إلا أربعة مناضلين: جوزف رزق الله، والرفيق الشهيد الملازم علي الحاج حسن والرفيق فؤاد الشمالي، وسمير مسلم، الذين قضوا على نية الارتقاء شهداء لأن قدرهم العبور صعوداً شهداء مع سبق التصميم والإصرار.
سيرة مناضل قومي (1926-1970)
سيرة وإن «تأخرت» إلا أن ألقها النضالي بقي نضراً في الذاكرة الحزبية الجماعية، إذ أنها جاءت تؤرخ لحقبة شائكة في تاريخ حزبنا يذكرها رزق الله ويروي بعض فصولها الواقعة في خضم ثورتين خاضهما الحزب في أقل من عشرين عاماً. أولاهما الثورة القومية ألإجتماعية الأولى عام 1949 التي فقد فيها الحزب قائده ليجد القوميون أنفسهم لأول مرة من غير ربّان وعلى غير دراية، وثانيتهما الثورة الانقلابية الثانية 1962. وهذه المرّة أيضاً افتقد الحزب جُلّ قيادته الحزبية خلف زنانين السجن. وما بين الثورتين رؤوس تدحرجت متسربلة بخيانتها وتآمرها على سعاده وحزبه، و»أحداث» جسام «خضّت» الحزب بعنف لا مثيل له وما زالت تفاصيلها وأسرارها مثار جدل حتى يومنا هذا، وكان لوقعها على كيان الحزب سقوط النازلة وكادت أن تصيبه في مقتله، عقبتها «انتفاضة» قسمت ذات البين الحزبي، وأيضاً هذه المرة أودع أركان الحزب و»أمينته «الأولى خلف القواويش القاتمة.. وفي كل هذا الويل كانت ضريبة النضال عالية جدّاً على صفوف القوميين الاجتماعيين أفراداً وعائلات وأصدقاء، الذين تمّ التنكيل بهم كيداً وتشريداً وتهجيراً على «الهوية» وإن على سبيل الشبهة حتى أن قرى ومناطق تمّت معاقبتها فقط لأن «هواها» قومي وترابها قومي حتى «دجاجاتها قومية» (تندراً ببلدة النبي عثمان ذات الأغلبية القومية).
ويضعنا الكتاب أيضاً على بيّنة من التجربة الغنية الواسعة في السياسة والكفاح المرير في الخاص والعام، عائلياً وحزبياً في مرحلة العمل السري والعلني. وأكثر ما يميّزه القيم التي يحتويها من خصائص المناضل الثوري الواجب تحليه بها في غمرة الأيام الصعبة.
في النص السردي الذي ساقه الكتاب، على حد سواء في رسائل رزق الله أو مرويات شهودها العيان يتجلى لنا كيف كانت تدار الأمور التي لم تكن على غاربها كما كان يظن بعضنا، بل إن زمام الأمور كان «ممسوكاً» من قبل القوميين خارج المعتقلات الذين تمكنوا من الإفلات من السجن ولم يطل بهم مكوثهم فيه كثيراً. فتسنى لهم أن يتمتعوا نسبياً بالقدرة على التحرك وامتلكوا حس المبادرة والواجب وتحمّلوا المسوؤلية التاريخية بجرأة خارقة للمألوف والسائد على حيطة وحذر شديد بين «القصيبة» – بيروت – دمشق – عمان، مدار حركة الحزب و»قيادته السرية» آنذاك.
وفي كل هذا المخاض العسير بقي الحزب بفعل كدّ نخبة من رجاله ونسائه تشبه سيرتُهم وأسماؤهم نقاء سيرة واسم جوزف رزق الله، (ولا مجال لذكرهم هنا تجنباً لسهو غير مقصود يرمي علينا عتباً) انبروا يشدوا العصب والوزر والمسيرة نهاراً جهاراً، وكيف أن القوميين خاصة الميسورين على ما يروي الرفيق توفيق الحايك في الكتاب أنهم سارعوا بتقديم التبرعات المالية شهرياً لمساعدة أسر الرفقاء المعتقلين كالرفقاء زكي ناصيف ورشيد رسامني ويوسف جبران وكيف أن «المطرود» نعمة ثابت بقي «محبّاً وغيوراً على الحزب والرفقاء» وكان من المتبرّعين الثابتين في فترة العمل السري وأن الوحدات الحزبية في المغتربات «لم تقصّر» مما سمح بـ»بحبوحة» نسبية سمحت لـ»القيادة المؤقتة في لبنان» بتقديم المساعدة وتسهيل تحركات العمل الحزبي والتنسيق مع «القيادة المركزية في الأردن» التي نشأت أيضاً عقب ثورة 1962 من غير أن ينسوا الرفقاء في السجن، فشكلوا لجنة سياسية حزبية تمكّنت من جمع توقيع 49 نائباً من أصل 99 نائباً وافقوا على الإفراج عن القوميين الاجتماعيين. وللمفارقة، كان أول الموقعين عليها المرشح خليل خوري نجل الرئيس اللبناني بشارة الخوري تلاه المرشح سليمان فرنجية (الجدّ)..
كل هذه المحفوظات سجلها رزق الله سواء في مراسلاته الى قيادة الحزب وفي مرويات القوميين التي أوردها الكتاب (الصادر عن الفرات للتوزيع والنشر) في تسلسل أحداثها التاريخية لتخرج من مخزون الذاكرة الشفهي الى الرصد الكتابي التسجيلي بما يزخر به هذا التاريخ من تجليات وآمال وتضحيات ليست دونها خيبات وأزمات في تداخلها وتقاطعها الشان الخاص مع الذات الجماعية لتكون مادة «دسمة» للمهتمّين بكتابة تاريخ الحزب بعد إخضاعها للتحليل والتحريف وتحرير أحداثها وتواريخها وإسقاطها على مدوّنات الحزب من مذكرات ووثائق ومرويات للمقارنة والمقاربة، لتخرج من صيغة «على ذمّة الراوي» إلى منزلة الصحيح من التاريخ… وهنا بيت القصيد من كتابة المذكّرات والسير النضالية. وهذه مهمة نتركها للباحثين في تاريخ الحزب وعلى الأخص الأمين لبيب ناصيف، أطال الله بعمره ومدّه بالصبر الجميل.
ملامح رجل قضية
أما جوزف رزق الله، كفرد في تماهيه مع قضيته وصفات أقرّها له ممن عرفوه أو عايشوه في إجماع قلّ نظيره عن.. الرفيق المناضل، المتمرّد، الصارم المشاكس، الملتزم، المتواضع، المناور، المثقّف.. البشوش معتقَلاً.. أو شهيداً..
مخيفة صرامته وشجاعته، يقول نبيل أبو نكد الذي تكشّف له الحزب على يد جوزف رزق الله: جبّار في تمسكه بالنظام الحزبي، غضوب إذا اقتربت ويلات الزمان من حزبه.. نقي في مبادئه نقاوة ماء العيون، صلب كصخور الوعر.
كل هذه السمات ترجمها جوزف رزق الله في انتمائه نضالاً وثقافة.. كمناضل استطاع أن يجسّد في شخصه شمائل السمات النضالية وتمثلها بعمق حتى الرمق الأخير، اذ رحل عن حياة مزدحمة بالمناقب والشمائل النادرة.
من لحظة الانتماء الى طيب الختام، حصاداً أثمر بذراً وغرساً وتجذّراً في عائلة «قومية» أودعها أمانة بوصية حملها في عنق الجندي المجهول «عطر الليل» «جزيل» ابنته البكر ورفيقته وبطلة المهمات الصعبة في مغامرات تحفّها المخاطر ومعها عدد من الرفقاء أوصاهم خيراً بطفليه سعاده، وناصيف، اللذين نشآ على طيب الذكرى وعطرها وصغيرته «أليس» التي باغتها اليتم دون الثامنة من عمرها وفي يدها عقد خرزيّ هدية العيد. (أما زلتِ تحتفظين به يا أليس؟) وأوصى الجميع بزوجته برا وخيراً..أما نحن فنقول كيف لحزب يضمّ في صفوفه مناضلين من طوية جوزف رزق الله عماده هذا الأساس المتين من المناقب الصارمة… إلا أن ينتصر.. وينتصر..