لماذا لبنان في قلبِ الاهتمامات الروسية؟
د. وفيق ابراهيم
يُسيء اللبنانيون ظناً بإمكاناتهم، معتقدين أنها قليلة الأهمية ولا تجذب انتباه القوى الكبرى. لكنّ زيارة المبعوث الرئاسي الروسي ونائب وزير خارجية روسيا ميخائيل بوغدانوف بيروت، وتعمّده لقاء المكوّنات السياسية اللبنانية كافة، على تناقضاتها الحادّة والخطيرة، تكشف عن اهتمام روسي متصاعد وغير مسبوق بهذا البلد الصغير.
فما هي أسباب هذا الاهتمام، وكيف تنظر موسكو إلى بيروت؟
بالنسبة إلى روسيا، يختزل لبنان كلّ أزمات منطقة الشرق الأوسط ويعكس حركة توتراتها. فهو يؤثر أولاً في الصراع العربي ـ «الإسرائيلي» لسببين هما: حزب الله الذي يعتبر قتال «إسرائيل» جزءاً أساسياً من عقيدته واستراتيجيته، والوجود الفلسطيني الذي أصبح يشكل ثقلاً على الداخل السياسي اللبناني.
وقد لعب لبنان أدواراً كبيرة في الأزمة السورية، بدأت مع تورّط بعض قواه الدينية والسياسية فيها، تلك القوى التي رفعت شعار «الجهاد» ضدّ النظام السوري وأوت وموّلت ودرّبت وفتحت حدود الشمال لنقل المقاتلين اللبنانيين والأجانب إلى الداخل السوري. وقد تولى هذا الدور الجناح الديني السلفي اللبناني والفلسطيني وحزب «المستقبل» في مناطق الشمال، ولا يزال يؤدّي هذا الدور حتى الآن.
وعندما تدخّلت «إسرائيل» وتركيا والسعودية وقطر في الأزمة السورية على مختلف المستويات السياسية والإعلامية والمالية والعسكرية، دفع حزب الله بقواته للدفاع عن حليفه النظام السوري.
وترى موسكو أنّ لبنان موجود أيضاً في أزمة العراق بسبب تقاطع قواه الأساسية مع حزب الله، ولا يغيب أيضاً عن اليمن الذي تربطه بقواه الصاعدة علاقات عميقة، وكذلك المناطق الشرقية في السعودية، حيث يتهم السعوديون ما يسمّونه «حزب الله الخليج» بالتأثير فيها، من دون نسيان البحرين حيث تخفق أعلام الحزب في كلّ حراك. لذلك تعتبر موسكو أنّ حزب الله هو الطرف الوحيد الذي يستطيع إقناع حكومة طهران بوجهات نظره في المشرق العربي.
وبالانتقال إلى «حزب المستقبل»، تأمل روسيا أن تنسج علاقات عميقة معه لدوره الأساسي في الإدارة السياسية اللبنانية، منذ العام 1990، بقواه وتحالفاته، والدعم الذي يتمتع به من التحالف السعودي – الخليجي ـ المصري.
وترجو قيادة الكرملين استكمال دائرة تأثيرها على القوى المسيحية اللبنانية، لتؤمن بذلك تغطية من الفاتيكان، والمُحبَط لتخلي الغرب عن مسيحيّي المشرق.
هذه هي الصورة البانورامية التي يعمل عليها الروس، وذلك لسببين أولهما أنّ لبنان لم يعد مساحة حصرية للسياسة الغربية، فحزب الله بدّل من هذا المعطى القديم، كما أنّ تحالفاته مع أطراف مسيحية أخرى تسمح لموسكو بالتفكير ملياً بدور روسي دائم وعميق في لبنان.
أما السبب الثاني فهو أنّ روسيا تريد ضرب الحصار الغربي حولها بتمديد خط حركتها على الساحل الشرقي للمتوسط، من نحو مئة وخمسين كيلومتر على الشاطئ السوري إلى ثلاثمئة وخمسين كيلومتر مع الشاطئ اللبناني تتمتع بمواصفات قياسية، بين تركيا وقبرص وفلسطين المحتلة.
فهل يتحوّل لبنان إلى ساحة صراع روسي ـ سعودي، باعتبار أنّ الرياض تمتلك نفوذاً فيه من خلال تأثيرها على حزب «المستقبل»؟
لا شكّ في أنّ لبنان مقبل على تحركات لقوى إقليمية ودولية ستحاول مدّ نفوذها إليه، وهنا لا بدّ من التذكير بأنّ النظام اللبناني وعلى الرغم من طائفيته ومذهبيته، فإنه يذهب إلى الانتخابات لحلّ مشاكله. لذلك سيزداد اهتمام القوى الدولية بالانتخابات الداخلية في هذا البلد، مع إضافة الوجود الدائم لحزب الله في مواجهة «إسرائيل»، ما يعطي روسيا دفعاً استثنائياً في مستوى العلاقات مع لبنان.
ولا بدّ في هذا الإطار من الإقرار بأنّ روسيا ليست جمعية خيرية، فهي تطمح إلى بيع لبنان سلاحاً من صناعتها، وسبق للروس أن عرضوا طائرات «ميغ» متقدمة جداً على الجيش اللبناني ورفضها لبنان بذرائع تقنية غير مقنعة، أخفت رفضاً أميركياً في حينه بحجة مضحكة تتعلق بالتوازنات العسكرية مع «إسرائيل».
وتستبطنُ روسيا مشروعاً كبيراً في دهاليز سياساتها الخارجية، وهو ملف الغاز في الساحل الشرقي للمتوسط. هذا الغاز الموجود في سواحل فلسطين المحتلة ولبنان وسورية، وبين هذه المناطق وبحر قبرص، وبكميات كبيرة. لذلك تحاول شركة «غاز بروم» الروسية المشاركة في كلّ المناقصات الدائرة على قدم وساق في كلّ هذه البلدان، لأنّ روسيا هي المنتج الأكبر للغاز في العالم، وتتربّع على رأس قائمة الدول المالكة لاحتياطاته. وتصلح «غاز بروم» لأداء دور في الشرق على مستوى الإنتاج والشراء والبيع. لذلك فإنّ إيجاد موطئ قدم راسخ لها في لبنان يؤدّي تلقائياً إلى إمساكها بإنتاج الغاز السوري واللبناني ومحاولة التأثير على الاتفاقات التي قد يعقدها هذان البلدان مع قبرص، وقد تضغط روسيا باتجاه تحسين أوضاع لبنان في أزمة حدوده البحرية مع «إسرائيل» التي تستولي حالياً على مساحة 850 ميلاً بحرياً تقع في النطاق البحري اللبناني.
روسيا عائدة إلى المنطقة بقوة، وهذه المرّة من دون العقيدة الماركسية، بل بسياسات استراتيجية تجمع بين السياسة والاقتصاد. وهي فرصة نادرة لوقف الجموح الأميركي وإعادة بناء قوة في الشرق الأوسط تدافع عن مصالح الشعوب وحقوقها في التطوّر والتقدّم.