الأتراك والأوروبيّون نحو تموضعات متعدّدة… فماذا عن أهل الكهف؟
} د. وفيق إبراهيم
دول العالم منهمكة، تجهدُ للعثور على موقع في توازنات القوة الجديدة، بعد التراجع الواضح الذي اصاب الإمبراطورية الأميركية انطلاقاً من عجزها عن إسقاط الدولة السورية وتفجير إيران وإلغاء قضية فلسطين.
فها هي تركيا تحافظ على عضوية شكلية لها في الحلف الأطلسي الناتو وترسم في المقابل تحالفاً عميقاً مع روسيا (العدوة التاريخية لهذا الناتو المتأمرك) يؤسس نفوذاً في ليبيا وقوة اقتصادية هائلة من خلال تمرير أنابيب الغاز الروسية نحو أوروبا واستهلاكها الداخلي الخاص والسياحة والاستيراد والتصدير والمشاريع الصناعية بين أنقرة وموسكو المتلهفتين لصعود صناعي بالتحالف مع الصين التي تكاد تلتهم أسواق العالم.
كذلك فإن الثلاثي الأوروبي المحوري المانيا وفرنسا وبريطانيا ينتقلون من ضفة الى أخرى استشعاراً منهم ببدء مرحلة تحوّل تاريخية يجب عليهم ان يجدوا وضعية جيوبوليتيكية مريحة فيها.
هناك ثلاثة مواقف لمسؤولين اوروبيين تكشف التوازنات الجديدة، فأوروبا في خاتمة الأمر مجموعة دول صناعية تحتاج الى أسواق تصدير ومواد أولية ومصادر طاقة من الغاز والنفط.
التصريح الأول هو للرئيس الفرنسي ماكرون خلال لقائه الأخير مع نظيره الروسي بوتين، مؤكداً فيه على «العلاقات الاستراتيجية» بين بلديهما في اوروبا والشرق الاوسط كاشفاً عن حلف روسي فرنسي لمعالجة الاضطرابات الإيرانية الأميركية من خلال العودة الى الاتفاق النووي بالتعهّدات التي كان الأوروبيون تعهّدوا فيها بالتعويض عن الخسائر الذي تسبب بها الحصار الأميركي على إيران والتزام دول كثيرة به بينها بلدان أوروبية.
ماذا يعني هذا الكلام؟ يشير بوضوح الى الاعتراف الفرنسي بصعود قطبي روسي غير معادٍ لأوروبا ينتزع حصة وازنة من عيارات الأُحادية الاميركية بشكل يشاركها في امتداداتها الدولية او أصبح قاب قوسين او ادنى من ذلك.
والفرنسيون يعرفون ايضاً ان الصين المتحالفة مع روسيا هي قطب عالمي ثالث، لذلك يعرض ماكرون على الحلف الروسي الصيني خدمات قارته أوروبا في إيجاد حلول لأزمات الشرق الاوسط، متمنياً من خلال هذه السياسات الجديدة تحقيق تموضع لأوروبا او للثلاثي القوي فيها على الاقل موقعاً رابعاً يدفع نحو عالم لا ينتج القرار فيه إلا تحالف اميركا وروسيا والصين وأوروبا ما يضعف احتمالات الحروب، ويُحاصص الاستثمارات الاقتصادية في العالم، حسب أحجام القوى المهيمنة وإمكانات الدول المغلوب على أمرها.
من جهة بريطانيا، فتعمل على الاستفادة من آخر مكامن القوة الأميركية، خصوصاً في أوروبا فتسحب منها دعماً لانفصالها عن الاتحاد الأوروبي اعتقاداً منها انها الوريث الشرعي الانجلوساكسوني للأميركيين الذين سبق لهم وأخذوا دورهم العالمي بدءاً من الحرب العالمية الثانية من خلال تراجع الدور البريطاني.
لذلك لم تنقص وزير الدفاع البريطاني روبرت والاس الشجاعة في دعوة بلاده في مقابلة حديثة له مع صحيفة «صنداي تايمز» الى «الاستعداد لخوض حروب بقواها العسكرية الانجليزية من دون الاعتماد على الأميركيين لأنهم يفقدون دورهم في قيادة العالم».
الا تكشف هذه التصريحات عمق الرصد الأوروبي لمدى التراجع الاميركي ومباشرتهم البحث عن بدائل في معادلات القوة الجديدة لا تستبعد الأميركيين تماماً، لكنها تُطلق في الوقت نفسه رصاصة الرحمة على احاديثهم القطبية.
بدورها مستشارة المانيا انجيلا ميركل، رفضت كل الضغوط الأميركية التي لا تزال تصرّ على ضرورة الإلغاء الألماني لخط الغاز الروسي – الألماني من خلال بحر البلطيق والذي ابتدأ طرفاه ببنائه، مشجعاً اوكرانيا ايضاً على التعاقد مع روسيا على تجديد العمل بخط الغاز الروسي المار في أراضيها، علماً ان اوكرانيا تخضع للسياسة الأميركية التي تستعمل كييف ورقة ضغط استراتيجية على السياسة الروسية، وحائط صدّ كانت تريد واشنطن منه حصار روسيا داخل حدودها.
إن كل هذه الدول مع بلدان كثيرة لا مجال هنا لذكرها، انتبهت الى اقتراب مرحلة عالمية جديدة وتعمل على البحث عن مصالحها في تطوراتها المتلاحقة، فماذا عن العرب الذين تتصارع القوى الدولية على أراضيهم وثرواتهم ومواقعهم؟
إيران وسورية وحزب الله نجحوا في نسف الخطة الأميركية موفرين أدواراً إقليمية لإيران وصموداً أسطورياً لسورية وقوة لحزب الله في لبنان والإقليم، وكان هذا النجاح دفعاً لنجاحات عراقية ضد الارهاب مع محاولات للتخلص من الاحتلال الاميركي والانفتاح على الصين تمهيداً لاستعادة الروس.
هنا لا بد من الإشارة الى ان القوة الإيرانية تمكنت من زعزعة الوجود الاميركي في الشرق الاوسط بشكل أسقطته من مرتبة القوة التي لا يمكن المسّ بها الى مجرد مستعمر قابل للترحيل بالقوة. وهذه من مؤشرات تدهور اُحاديتهم.
اما ما تبقى من دول عربية في الشرق الأوسط فتبدو وكأنها خاضعة لسبات مشابه لنوم أهل الكهف، فمصر تخضع لعصر جامد يحاول فيه رئيسها السيسي استعمال براعة اللهجة المصرية المحكية لإيهام مواطنيه أن بلادهم متقدّمة فيقول لهم «الفقر مش عيب» ما يحوله الى هدف شعبي وسط هيمنة أميركية على السياسة المصرية وتعاون مصري إسرائيلي فاق مرحلة السادات. وكذلك الأردن الذي يمرّ بأسوأ مراحله الاقتصادية بسبب توقف «الإكراميات» الخليجية، محاولاً الاحتماء بالأميركيين ومذعوراً في الوقت نفسه من صفقة القرن التي قد لا تبقي عليه.
ما يقود الى الخليج النائم في القرون الوسطى بحراسة اميركية، غافلاً عن المتغيرات الدولية التي تهدد دوله، لما يحتويه من نفط وغاز متوهماً ان القدرة الاميركية لا منافس لها، وبالإمكان عند الخطر الإضافي البقاء في الكهف وجذب «إسرائيل».
علماً انهم يشاهدون الإصرار الإيراني على دحر الاميركيين، وبإمكانهم الاستفادة من هذه المرحلة، لتكوين معادلة حماية جديدة لبلدانهم تتعامل مع المتغيرات الدولية.
فإيران لم يعد بالإمكان تجاوزها، والصين وروسيا واوروبا، هي قوى قطبية جديدة تستطيع ان تُخفف من البلطجة الأميركية التي تواصل ابتزاز الدول الخليجية الضعيفة وسرقة أموالها.
يبدو أن قطر ثاني أصغر امارة في الخليج، استفادت من الحصار السعودي – الإماراتي البحريني المصري عليها، فطورت علاقات اقتصادية مع إيران تتجه لتأسيس علاقات سياسية محايدة على الرغم من وجود قاعدة العديد الأميركية في الدوحة وهي قاعدة كبيرة.
بالمقابل تواصل دول الخليج تمويل القوات العسكرية الاميركية المنتشرة في العراق وجزيرة العرب، ولا تبالي بتراجع النفوذ الاميركي، لأنها لا تتبينهُ او لا تعرف وسائل تقويم الاعوجاج واعادة تأسيس معادلات جديدة.
أهل الكهف الى اين؟ إنهم ذاهبون الى المزيد من السبات العميق، على حساب مصالح شعوبهم بوعد من ساداتهم الأميركيين بزعم بأن القطبية الاميركية قوية، ولن تترك ابداً وكلاءها في الشرق الاوسط.
فهل هذا حقيقي؟ اسألوا الأتراك والفيتناميين واليمنيين والمعارضة السورية وبعض الفصائل الكردية والإرهاب، كيف يبيع الأميركيون أصدقاءهم من اجل حفنة قليلة من الدراهم، والريالات وتوازنات القوى الجديدة.