إضاءة «الحبّ في زمن الكوليرا»… مفارقات طبقية وغليان عواطف على نار الخيالات!
} محمد رستم*
بين العشق واحتراق الشهوة… قراءة في رواية «الحب في زمن الكوليرا» لماركيز.
منذ البدء نلحظ أن هذه الرواية تنضوي تحت عباءة الأدب الواقعي الذي يتمطّى على خلفيّة خياليّة وفي الإطار الفنيّ، خيال رتّب بحرفيّة تجعله يقارب الواقع بما يحقّق شغف الإنسان بالحقائق وحنينه إلى الخيال…
تأتي المرويّة كنمـــوذج لرقي الأدب الملـــتزم الذي يمـــاهي بين مشاكل الفرد وسيــرورة المجتـــمع ولعلّــها تجــسّد مقولة الكاتب: أعتــقد أنّ واجــب الكاتــب الثـــوري أن يكـــتب جيّداً هذا هو التزامه.
تجنح الرواية نحو ضفّة الأدب الإشكالي الذي تنبعث منه أسئلة كثيفة المثول فتكثر فيه مسارب التأويل وتتعدّد القراءات لأنّه نوع مراوغ خارج مساحات التموضع اليقيني، فهو يرتحل في قطار الاحتمالات ضارباً في سهوب التخمين: لذا فإنّ ما سأورده لا يتعدّى مجال التوقّع… ومنذ العنوان والذي يعتبر هو العتبة الأولى للمنجز «الحب في زمن الكوليرا».
من الواضح أن ما يقصده الكاتب بالحب هو تعلّق «فلورينتو بفورمينا» وهما من طبقة مترفة تنعم بالرفاه والكوليرا هي المرض الذي يفتك بالبلاد وبالطبقة الفقيرة على وجه الخصوص وكأنّ في العنوان فاصلاً طبقياً مقصوداً بين المبتدأ وخبره، هذا وفي المرويّة وردت مشابهة بين الحب والكوليرا حين قال الدكتور: أعراض الحبّ هي أعراض الكوليرا نفسها.
وحول المؤدّى الفكري للرواية أرى أن الكاتب ضرب أكثر من عصفور بحجر واحد فلعلّ للمرويّة مؤدّى فكرياً سياسياً «وطنياً اجتماعياً طبقياً ديموغرافياً»، انطلاقاً من موقف الكاتب السياسي، إذ نجد أنّ الكاتب دفع بالكثير من وصف الجزئيات في سياق السرد ليبرز سيرورة المجتمع في حال انتقاله من مرحلة الاحتلال الإسباني إلى مرحلة ضبابيّة المدينة التي لم يصبها شيء خلال أربعة قرون سوى الهرم.. أمطار فجائيّة تجعل المراحيض تفيض وتحول الشوارع إلى برك وحل نتنة، وواضح أنّ لا أمل يلوح في الأفق. فالمؤشرات تؤكّد أنّ الأمور آيلة نحو مزيد من مفازات الوجع والضياع وكأنّ المرويّة تريد أن تقول: إنّ دول أميركا اللاتينيّة إنّما هي تركة الرجل الخبيث.. واقع سيئ يتعايش الناس فيه مع الحروب الأهليّة والنفايات والمخلّفات والجثث الطافية التي ضربتها الكوليرا في بيوت من الصفيح بنيت فوق المجاري المكشوفة بينما تنعم الطبقة الأرستقراطيّة بمباهج الحياة (مثلاً الرحلات الترفيهية لفورمينا وزوجها إلى أوروبا واقتنائها التحف الفاخرة) ومن الرواية (وكان زبائنه يسكنون البيوت الفاخرة في حي الفيريس)…
لقد جعل الكاتب من الوضع الاجتماعي وحالة البلاد اللوحة الخلفيّة بل العالم الروائي والوعاء الذي يحتضن أحداثها وواضح أنّ لها مؤدّى وجودياً ونفسياً «الإنسان وكينونته ومشاعره»، وهنا ينفتح الأمر على موضوعة الحبّ والجنس والزواج… وكأنّ الكاتب قد بنى شخصيّة بطله «فلورنتو» وفق قول الشاعر: أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى… فصادف قلباً خالياً فتمكّن إذ بدأ عشقه لفيرمينا من مرحلة المراهقة فشكّل عشقها مهمازاً لحياته ووقع تحت حالة من التولّه والهيام الشديد. وفي الحالة العاديّة يتبخّر مثل هذا العشق وتطويه صفحات الأيام إذ يتحوّل إلى مجرد رغبة جميلة باهتة في دفتر الذكريات، ولكنه تحوّل لدى «فلورينتو» إلى حالة مرضيّة (فالزمن في عالم عشقه ثابت لا يتغيّر) وتفاقم الحالة المرضيّة لديه جعله متأكداً من أنّ فورمينا ستكون أرملة لا محالة وأنّها ستنتهي إليه حتماً… ومع تقدّم العمر وتهرّؤ الجسد ظلّ قلبه ينبض حباً يضخ نسغ التوق لقد أضحى العشق هاجسه الحياتي وكأنّه صخرة سيزيف و»فلورينتو» العاشق المهزوم الذي رفضه والد فيرمينا لفقره، يجاهد كي يكون جديراً بها دفعه ذلك لأن يبحث عن الثروة حتى لو كانت في السفن الغارقة في البحر وحقّق ما يريد بما يمتلك من صفات النشاط والتميّز. فبنى الثروة التي يطمح إليها ولعلّ تشبثه بحب «فورمينا» هو نوع من العناد والمناكفة والإصرار على الانتقام لكرامته المهدورة وردّ للطعنة التي أصابته حين رفضه والدها .
ويقدّم الكاتب هنا شخصيّة خاصّة تكاد تكون شاذّة، فمذ وقع في العشق دخل في حالة فقدانه للنطق والشهيّة وتضاعف الجزع وتحوّل إلى اختلاطات مترافقة مع براز وقيء أخضرين مع إغماءات مفاجئة حتى قال الدكتور: إنّ أعراض الحب هي أعراض الكوليرا نفسها، ويمكن وصف «فلورينتو» بأنّه مريض نفسيّاً ومهووس جنسيّاً، فقد مضى بوصلته الشهوة والشبق ينهل من لذائذ الجنس والمتعة الجسدية متقلباً بين بنات الهوى ووصفت حالته المرضيّة بالتوحّد، فهو متوحّد بحاجة إلى الحبّ (إنهنّ يميزنه كمتوحّد بحاجة إلى الحبّ ص 139) وما يؤكّد هوسه الجنسي أن قريبته التي أؤتمن عليها وأصبح ولي أمرها في المدرسة وهي طفلة لم تنجُ من شبقه.
مما يؤكّد بالفعل حالته المرضيّة هو قوله لفيرمينا بدل عبارات العزاء وهي في ليلتها الأولى كأرملة: (لقد انتظرت هذه الفرصة لأكثر من نصف قرن. لأكرّر لك مرّة أخرى قَسَم وفائي الأبدي وحبّي الدائم)، فظنت فيرمينا أنّها تقف أمام معتوه. إذ مضت على حبهما اثنتان وخمسون سنة… فبكت كثيراً في تلك الليلة. وبدا «فلورينتو» هنا كصوت نشاز يشاكس ترنيمة الحياة و»فيرمينا» التي أحبّته ولاقت ما لاقت لأجله حين تزوّجت وضعت حبّها له على رفّ النسيان… مع أنها دخلت وزوجها عند الشيخوخة في حالة الملل وضيق النفس وحتى الخلافات تحت ضغط الرتابة الاعتياديّة.
الرواية تتناول موضوعات (الحبّ، الجنس، الزواج)، وهي قضايا مستقلّة عن بعضها لكنّها متداخلة فكثيراً ما تحوي كلّ موضوعة الموضوعات الأخرى بتداخل واحتواء، هذا بالإضافة إلى أن تناولها للبنية النفسيّة للإنسان تلمّح المرويّة إلى أنّ الجنس شيء والعشق شيء آخر، وكأنّ الإنسان مكوّن من عالم الجسد الذي يشعّ منه عالم العواطف والمشاعر (ومنها العشق). فالجنس ينتمي لعالم الجسد (لم تكن لها لحظة إلـــهام بل كـــانت بهيجاناتها الجنسيّة جلديّة خارجيّة تأتي في غير أوانـــها)، (يا له من جماع كئيب) ومن المرويّة كذلك (من الـــسرّة وما فوق للحبّ ومن السرّة وما تحت للجنس) ومع كل هذا التفصيل فإنّ الكاتب (أو المترجم) يسمّي الجنس حباً (في الفندق غرفة تؤجّر لممارسة الحب).
لذا، فالبطل يهرب إلى الجنس كواقٍ من لهيب العشق فقد مضى على سراط الوله واللذة أيروتيكياً (صيّاداً) بالنسبة لبقيّة النساء (لقد احتفظ بعلاقة ما وإن كانت واهية مع عشيقاته اللواتي لا حصر لهن لكن لا فائدة) بينما ظلّ عذرياً بالنسبة لـ»فيرمينا»، وكأنّ الرواية هنا تقول بأنّ الجنس لا يمكن أن يكون بديلاً عن الفيض العاطفي «الحبّ» حيث تغلي العواطف على نار الخيالات فتتضخّم محاسن المعشوق وترتقي نحو فضاءات الطهارة ويدخل العاشق رحابة العالم الأفلاطوني…
«فلورينتو» يعاني من متلازمة العشق الأبدي وعشقه هو اللازمة في نشيد الخشوع والفاتحة في صلاة التراويح و»فيرمينا» وحدها بيانه المفتوح على بياض التصميم لذا فقد ظلّ مصلوباً على خشبة التوق متشبثاً بأصابع عناده.
و»فيرمينا» بعد موت زوجها أضحت أمام ظرفيّة مغايرة، إذ سيطرت عليها حالة برزخية تردّدية أولاً، ثم لم تلبث أن دفنت مرحلة زواجها في مقابر النسيان ومالت إلى حبيبها الأول. مؤكّدة أنّ لا سلطان على القلب. مخالفة بذلك حقائق الحياة وهي أنّ العشق لا يحلّق إلّا بأجنحة الصبا والشباب ولا نصيب له في الشيخوخة. وكدنا نقول إنّ «فلورينتو» (ضيّع في الأوهام عمره) لولا أنّ الكاتب رتّب ميتتة دراماتيكة لزوج «فيرمينا». كي يخلو الجو لهذا المعتّق بالعشق.
وتحت غطاء السارد العليم يعرض الكاتب تداخلاً كبيراً بين العاطفي والوجودي والاجتماعي مما يوفّر عوامل متعددة تخلق الحكائيّة في المرويّة فيطلّ على قارئه من مدى واسع، فتبدو عينه الرائية أشبه بمرصد فلكي دوار لذا جاءت الرواية زاخرة بالكثير من وصف الجزئيّات مما يبدو للوهلة الأولى أنها لا تُغني ولا تُسمن، لقد أنتج رواية مهمّة وحيويّة رغم سوداويتها بمخيّلة سرديّة واسعة وحرّة. وبمهارة نقل الكاتب الحقائق من موقعها الزمكاني إلى عالم فنّ صناعة الرواية بلغة ذكيّة تغازل الشعرية في الكثير من العبارات ولما كانت الشخصيات مجرد كناية ورمز ومـــا تقـــوم به توريـــة ومواربات يستخلص منها المتلقي رســالة الكـــاتب فقـــد جـــاءت الشخصيّات مســـتلبة ضحيّة هالة مرعبة من القيم الســائدة والعادات.
وحول التفاصــيل الجنســـــيّة فقد جــاءت بأبهــى أشـــكال التألّق والـــشفافيّة الشـــعرية بعيداً عن الوصوفات المبتذلة والرخيصة.
*كاتب سوري