«إنجازات مدّعيها» إلى اليوم: ضياع فلسطين فتدمير العراق وسورية!
جورج كعدي
بفكره المؤسَّس على علوم الاجتماع والأنتروبولوجيا والسياسة، وعلى التاريخ وحقائقه غير القابلة للدحض يسوقها براهين وشواهد دامغة، يحدّد النهضويّ والرائي الكبير أنطون سعاده مفهوم العروبة وموقع القوميّة الاجتماعيّة السوريّة وموقفها منها، مظهراً تعارض العقيدتين وتناقضهما، على ما أسفلنا في الحلقة الفائتة من هذه السلسلة، وقيام «العروبة» على العنصرين اللذين يمجّهما الفكر القومي الاجتماعيّ، ألا وهما اللغة والدين، من دون أن ينفي تعدّد القوميّات العربيّة التي إذا ما اتّحدت أمكن القومية الاجتماعية السوريّة أن تشكّل نوعاً من الوحدة معها شرط تحقّق قوميّة الأمّة السوريّة أولاً. وهنا مزيد من إضاءات سعاده على إفلاس فكرة العروبة الوهميّة التي أضاعت كيليكية والإسكندرونة وفلسطين، قائلاً:
« … ذهبت كيليكية فقلت إنّ على سورية أن تقوم هي بقضيّتها القوميّة وتستعيد هذه المنطقة الشماليّة الخصبة من الوطن السوريّ، وقال العروبيّون: لا بأس، فإنّ «الوحدة العربيّة» ستتكفّل بإعادة هذه الأرض. ثم ذهبت الإسكندرونة ذات الموقع الحيويّ الممتاز فقال العروبيّون: لا بأس، «فالوحدة العربيّة»، متى تمّت، تعيدها. وقال القوميّون الاجتماعيّون قد خسرت سورية الإسكندرونة كما خسرت كيليكية بسبب إهمالها قوميّتها وعدم إقبالها على إقامة النظام القوميّ الاجتماعيّ الذي يوحّد قواها ويعطيها فاعليّة الحياة، فيجب أن تنهض سورية بقوميّتها لتستعيد الإسكندرونة. ثم جاءت أزمة فلسطين فكرّرتُ إنذاراتي بذهاب هذه البقعة الثمينة من الأرض السوريّة إلى اليهود وغير اليهود إذا استمرّ الشعب السوريّ في خيال العروبة الخياليّة وهذيان «الوحدة العربيّة وجيوش العرب والعروبة» ولكنّ العقليّة «العربيّة» اللاتعميريّة في سورية الطبيعيّة ظلّت مستمرّة في قواعدها وأساليبها إلى أن وصلت بالقضيّة الفلسطينيّة إلى الكارثة التي أنبأتُ، في رسالتي إلى الأمّة في 2 نوفمبر/تشرين الثاني 1947، بوصولها إليها. لم يجتمع العالم العربيّ أمّة واحدة في فلسطين، كما كان يزعم السوريّون العروبيّون. وقد ظهرت في فلسطين حقيقة الواقع أنّ العالم العربيّ أمم لا أمّة. ومن صور هذه الحقيقة المؤلمة لغير المخدوعين وللمخدوعين المستيقظين، أنّ مصر كانت نظريّاً، تحارب مع السوريّين ضدّ اليهود في حين أنّها كانت، عمليّاً، تشاطر اليهود احتلال أرض سورية، فاستولت على منطقة النقب الغنيّة بالنفط والإمكانيّات العمرانيّة، وعلى هذه المنطقة جرى أخيراً النزاع بين اليهود ومصر وتجري اليوم مفاوضات السلم بين مصر و«إسرائيل»! لم تكن هنالك حاجة إلى اشتراك مصر والعرب في الدفاع عن فلسطين لو أنّ الأمّة السوريّة كانت ناهضة بحقيقتها التي تنادي بها الحركة القوميّة الاجتماعيّة، ولو لم تكن صريعة الوهم العروبيّ. وهم «الوحدة العربيّة والخمسين مليون عربيّ» الذي يحاول العروبيّون أن يستعيضوا به عن نتيجة جهلهم واقع الأمّة السوريّة وواقع العالم العربيّ. في فلسطين أفلست العروبة وأفلست الفئة العروبيّة من فئات الـ Neo رجعيّين! كان إفلاس العروبة في فلسطين إفلاساً كاملاً، باهراً، نادر المثيل. إنّها أرادت أن تواجه قضيّة سياسيّة إنترناسيونيّة من الطراز الأوّل بقضايا وهميّة ومبادئ ميتة! … في فلسطين ودّعت الأمّة السوريّة العروبة الوهميّة، العاجزة، الاتكاليّة وداعاً فاجعاً لتلبّي دعوة الحركة القوميّة الاجتماعيّة إلى قوميّتها الحقيقيّة ولترى بعين حقيقتها هي واقع العالم العربيّ، فتنهض بقضيّتها السوريّة فتجد في قواها التي أهملتها زمناً طويلاً معيناً للنشاط لا ينضب ودافعاً إلى التقدّم لا يصدّه شيء. بهذا الاتجاه تصير الأمّة السوريّة قوّة فاعلة في العروبة الواقعيّة التي أعلنتُها ـ عروبة التعاون بين أمم العالم العربيّ».
في الشأن الدينيّ المتّصل بالعروبة والفكر القوميّ عامّة يقول سعاده: «بعقليّة الجهاد الدينيّ، الذي انتهى أجله ومضى زمانه، أرادت عروبة النفسيّة المريضة في سورية أن تعالج قضيّة قوميّة ممتازة ومسألة سياسيّة من أدقّ مسائل هذا الزمن. وفي حرب عصريّة في عصر القوميّات أرادت أن تحارب بجيش على مثال جيش «اليرموك» وأن تحوّل أنظار السوريّين إلى الصحراء العربيّة وأساليب العُربة … »، مردفاً في سياق آخر: « … ليست الحزبيّة المحمديّة ـ أقول المحمّدية لا الإسلاميّة لأنني كما أعلنت سابقاً أعتبر الإسلام شاملاً المسيحيّين وأهل الحكمة أيضاً ـ في الرجعيّة الجديدة لباس «القوميّة القوميّة العربيّ». وارتكزت على مرتكزين أساسيّين هما: اللغة العربيّة والدين المحمّديّ، اللذين نشرهما الفتح العربيّ المحمديّ، كذلك لبست الحزبيّة الدينيّة المسيحيّة في الرجعيّة الجديدة لباس «القوميّة اللبنانيّة» … ».
نخلص من قول سعاده إلى:
1 ــ توالت خسائر شعوب منطقتنا ومجالها الطبيعيّ الحيويّ ولم تستطع «العروبة» أن تتلافى أيّ خسارة منها أو تعالجها أو تبدّل في شأنها أمراً على أرض الواقع، وبخاصة لواء الإسكندرونة الذي سلبه الأتراك من الأمّة السوريّة، وتعاظمت الخسارة وبلغت ذروتها مع ضياع فلسطين… ولم تؤدّ «العروبة» دوراً في كلّ ما حصل.
2 ــ تمييز مصر غير العربيّة إلاّ بالشعار، إذ ثبت بعد عشرات السنين كلام سعاده الرؤيويّ حولها كدولة أقرب إلى اليهود و«إسرائيل» منهما إلى العرب وفلسطين والقضايا «العربيّة».
3 ــ تؤكّد الحوادث والتطوّرات الراهنة صحّة ما رآه سعاده في صدد «الجهاد الدينيّ» الذي هو من الماضي ولا يعيد حقّاً ضائعاً بل يساهم في إضاعة المزيد من الحقوق «العربيّة» المهدورة.
4 ــ يكشف كيف يرتدي الدين، إن الإسلاميّ أو المسيحيّ، اللباس القوميّ «القوميّة العربيّة» للديانة المحمّدية، و«القوميّة اللبنانيّة» لـ«الرجعيّة الجديدة للمسيحيّة اللبنانيّة» بحسب تعبير سعاده .
ليت أحداً من دعاة «العروبة» والمؤمنين بها حتى اليوم ينبري لمناقشة أفكار سعاده هذه حول «العروبة الوهميّة» التي لم تنجز بالأمس إلاّ ضياع فلسطين، وهي تضيّع اليوم الشام وتدمّرها بعدما أضاعت العراق ودمّرته… فما هذه «العروبة» التي هذه إنجازاتها؟!