ثالوث رجال الحكم والمال والإعلام يحكم الولايات المتحدة الأميركية… مصالحه أوّلاً ثم الشعب
طاهر محي الدين
الأهداف الرئيسية للسياسة الأميركية الخارجية بحسب نعوم تشومسكي:
1 – حماية مجالنا
أصابت الحرب العالمية الثانية منافسينا الصناعيين بالشغف الشديد أو حتى دمّرتهم تماماً،بينما تضاعف إنتاجنا ثلاث مرات، ولم تتعرض حدودنا لأي هجوم. امتلكنا 50 من ثروات العالم وسيطرنا على جانبي المحيطين الأطلسي والهادي. اتفق المخططون على ضرورة الحفاظ على تلك السيطرة، لكن مع خلاف واسع في الرأي حول كيفية تحقيق ذلك.
عام 1950 كتب بول نيتز المذكرة الخاصة بالأمن القومي رقم «NSC 66» وتبلور فكر وزير الخارجية الأميركي آنذاك دين أتشيسون داعياً إلى استراتيجية «تقزيم الاتحاد السوفياتي» بزرع بذور التدمير في نظامه، لنتمكن من التفاوض معه وفق شروطنا. ويستلزم ذلك إنفاقاً عسكرياً هائلاً وخفضاً في البرامج الاجتماعية،وتقليص التسامح الزائد الذي يجلب الاختلافات الداخلية.
بول نيتز: هو أحد مفاوضي ريغان في مفاوضات الحد من انتشار السلاح.
تعاونت أميركا مع النازيين، وبعد ذلك التعاون تم تجنيد عملاء سريين من عملاء هتلر وكان دورهم العمل داخل الاتحاد السوفياتي وأوروبا الشرقية في مطلع الخمسينات. كان هذا الاتجاه يمثل الصقور في السياسة الأميركية. وكان الطرف الآخر هو الحمائم ويمثلها جورج كينان، رأس مخططي وزارة الخارجية الأميركية حتى عام 1950، وكان مكتب كينان المسؤول المباشر عن شبكة جهلن التي حملت اسم قائدها ريهارد جهلن، القائد السابق للمخابرات العسكرية النازية في الجبهة الشرقية التي تأسست عام 1949.
كتب «كينان» عام 1948 المذكرة رقم « PPS 23 « لتخطيط السياسة الأميركية وورد فيها:
تمتكلك أميركا نحو 50 من ثروات العالم ولـ 6.3 فحسب من سكانه، وفي مثل هذا الوضع لا يمكننا تجنب استياء الآخرين، ومهمتنا الحقيقية في الفترة المقبلة هي ترتيب نموذج للعلاقات يحافظ على استمرار هذا التفاوت، وتحقيق ذلك يتمّ بالتخلي عن الأحلام والعواطف، والتركيز على أهدافنا القومية المباشرة، ويجب أن نمسك عن كلامنا المبهم للآخرين، والأهداف غير الحقيقة مثل حقوق الإنسان ورفع مستوى المعيشة والديمقراطية، فتلك أهداف غير حقيقية. لن يكون اليوم الذي تضطر فيه أميركا إلى التعامل بمنطق القوة بعيداً ». ونبه كينان سفراء الولايات المتحدة في أميركا اللاتينية بأهمية المحافظة على الخامات الأولية للولايات المتحدة فيها، ومحاربة الهرطقة الإلحاد والشيوعية.
أوضحت دراسات عالية المستوى عام 1955 أن التهديد الرئيسي من القوى الشيوعية يكمن في رفضها أداء دورها الخدمي،أي إكمال الاقتصادات الصناعية للغرب.
شرح كينان الوسائل التي يتعين استعمالها في محاربة الأعداء الذين وقعوا فريسة الهرطقة، قائلاً: «إنه يجب استعمال الحكومات المحلية كسلاح للقمع، ومن الأفضل وجود نظام قوي في السلطة من وجود حكومة ليبرالية متسامحة متراخية يخترقها الشيوعيون «.
بناء على ذلك المضمون مع مسائل أخرى، غزا ويلسون هايتيي والدومينيكان فقتل الأميركيون وخرّبوا، ودمّروا النظام السياسي وأحكموا قبضة المؤسسات الأميركية على البلدين، وهيّأوا المسرح السياسة في كل منهما لديكتاتورية وحشية فاسدة.
2 – المجال العظيم
يشمل نصف الكرة الأرضية الغربي وغرب أوروبا والشرق الأقصى ومستعمرات بريطانيا السابقة، ومصادر الطاقة في الشرق الأوسط التي لا مثيل لها، والتي كانت تتحول إلينا، وبقية العالم الثالث إذا أمكن، ثم إخضاعها لمتطلبات الاقتصاد الأميركي بقدر ما سمحت به الظروف.
في كل مكان في العالم دور مخطط له :
1 – الدول الصناعية تصبح ورشاً عظيمة تعمل تحت إشرافنا.
2 – دول العالم الثالث مصدر إمداد المجتمعات الرأسمالية بالخامات، وتكون أسواقنا لبيع المنتجات المصنعة.
3 – إعادة بناء جنوب شرق آسيا وإفريقيا.
من نتائج ذلك نشوب الحرب الفيتنامية بعد رفض الوطنيين هناك القيام بذلك الدور. إن خطر فيتنام هو أن استقلالها يهدد بأن تكون مثلاً تحتذي به الدول الأخرى في المنطقة.
كانت لدى الحكومة الأميركية مهمّتان، الأولى تأمين السيادة على المجال العظيم، ويستلزم ذلك حيازة قوة تهديد مرعبة كي لا يتجاسر أحد على تلك السياسة، وهذا من أسباب بناء الترسانة النووية، والثانية توفير دعم حكومي للصناعات التكنولوجية المتقدمة.
3 – استعادة النظام التقليدي
أدرك المخططون مثل جورج كينان أهمية إعادة بناء الدول الصناعية الغربية، بما فيها اليابان التي دمرتها الحرب، كي تستطيع استيراد مصنوعات أميركا وتكون فرص للاستثمار، لكن يجب أن يتم ذلك بطرائق محددة.
من الواجب كذلك استعادة النظام اليميني التقليدي، وسيادة أصحاب الأعمال، وإضعاف التكتلات العمالية، وتحمل الطبقة العاملة أعباء إعادة البناء.
وقفت مقاومة الفاشية كعقبة رئيسية أمام ذلك،وتم إخمادها في جميع أنحاء العالم. احتاجت المسألة إلى استخدام العنف البالغ أحياناً، ونجحت أحياناً أساليب أخرى مثل التلاعب في الانتخابات ومنع وصول القوت الضروري.
يتابع تشومسكي قائلاً:
أطلق روزفلت عام 1942 النموذج الذي يحتذى به حين عين الأدميرال الفرنسي جان دارلان حاكماً على شمال أفريقيا الفرنسي ووضع قوانين معاداة السامية. فبعد تحرر إيطاليا فرضت أميركا حكومة يمينية استبدادية.
أدرك المخططون أن ما يهدد أوروبا ليس عدواناً من الاتحاد السوفياتي، لكن الحركات والأفكار الديمقراطية المعادية للفاشية لدى العمال والفلاحين وجاذبية الأحزاب الشيوعية والاشتراكية. ولذلك، لإعادة بناء الاقتصاد الرأسمالي في أوروبا، نفذت أميركا مشروع مارشال، وأقرضت أوروبا أكثر من 12 بليون دولار، واشترى بها أكثر من ثلث الصادرات الأميركية لأوروبا عام 1949.
سياسة أميركا في العالم الثالث:
معارضة الديمقراطية بمثابرة وإصرار، إذا كانت نتائجها خارج سيطرتنا. والمشكلة أنها فريسة للوقوع في الهرطقة التي تزعم أن على الحكومات الاستجابة لمصالح شعوبها، بدلاً من مصالح المستثمرين الأميركيين «لدى أميركا، الدولة الفقيرة الضعيفة هي الخطر الأعظم».
إذا كنت تريد نظاماً عالمياً يخضع لمتطلبات المستثمرين الأميركيين، يمكن أن تسمح بأن تخترق بعض الأجزاء من ذلك النظام. بدأ العالم منذ مطلع السبعينات ينقسم إلى ثلاث كتل اقتصادية:
الأولى مركزها اليابان ومستعمراتها السابقة بعد الحرب العالمية الثانية. كانت أميركا مخيرة بين خيارين، إما أن تترك اليابان تسلك سبيلها المستقل، أو يعاد بناؤها تحت إشرافها، واختارت بالطبع الخيار الثاني. شجعت أميركا على التصنيع في اليابان، مع شرط أن تتحكم في إمدادها بالبترول. لم تكن أميركا محتاجة إلى بترول الشرق الأوسط، لكنها أرادت أن تضع أيديها على مصادر الطاقة العالمية والتأكد من أن أرباحها تتدفق عليها وعلى بريطانيا.
الثانية أوروبا، وتسيطر عليها ألمانيا، إذ تتمتع أوروبا باقتصاد أكبر من أميركا وسكان أكثر وأفضل تعليماً، فإذا تحولت أوروبا قوة واحدة قد تحوّل أميركا إلى قوة الدرجة الثانية.
الثالثة أميركا وكندا، وسوف تشمل المكسيك وأجزاء أخرى من نصف الكرة الغربي، بفضل اتفاقيات التجارة الحرة التي تروّج أساساً لمصالح المستثمرين ومشاركيهم.
التدمير في الخارج
تبيّن دراسة أن المساعدة الأميركية تميل إلى الزيادة مع الحكومات التي تمارس التعذيب مع مواطنيها، ولا علاقة لها بحاجة البلد، بل مع إرادة خدمة المستثمرين فحسب. وكشفت أخرى عن تلازم وثيق بين التعذيب والمساعدات الأميركية في العالم كله، ويرتبط التعذيب والمساعدة الأميركية بتحسين المناخ للأعمال الخاصة.
عملت أميركا دائماً على تأسيس علاقات مع العسكريين في البلاد الأجنبية، فهم وسيلة قلب الحكومات التي تخرج من الصف. القصة معروفة ومتوقعة ومكررة: يتحول الحاكم من الصديق اللطيف الذي يعتمد عليه فيستحق التأييد ويكال له المديح والثناء، إلى الطاغية المستبد فور البدء في ارتكاب جريمة الاستقلال. الخطيئة الشائعة والمقبولة لدينا هي تجاوز سرقة فقراء شعبه، إلى البدء في ما لا يعنيه من أمور الصفوة، ومصالح رجال الأعمال والشركات الكبرى، « الأميركية بالطبع.
استمرت إدارة جورج بوش في تكريم موبوتو وصدام حسين وسوهارتو وجرائمهم كلهم أسوأ من جرائم دانيال نورييغا الرئيس البانامي، الذي كان صديقاً للولايات المتحدة، ثم أصبح عدواً ضد الديموقراطية.
ماذا تفعل إذا كان لديك فيروس؟
أولاً، تقضي عليه.
ثانياً، تقوم بعملية تطعيم لمن تظن أن الفيروس سيطولهم.
تلك هي الخطوط الاستراتيجية الرئيسية لأميركا مع دول العالم الثالث. فالأفضل أن تقوم القوات المحلية بتدمير الفيروس، فإذا لم تفلح، عليك أن تحرك قواتك. وفيتنام إحدى المناطق التي كان عليك أن تؤدي فيها العمل بنفسك.
يتابع نعوم تشومسكي: عطلت أميركا جميع محاولات التسوية السياسية، فذلك يعني إمكان النجاح في التنمية بمعزل عن النفوذ الأميركي، وهذا أمر مرفوض. وبعد انتهاء حرب فيتنام عام 1975 انصب اهتمام السياسة الأميركية الخارجية على إيقاع أشد قدر من الكبت والمعاناة على تلك البلاد التي تجرأت على أميركا.
وبعد غزو العراق للكويت، أدان مجلس الأمن العراق، وفرض عليه حظراً فورياً. لماذا كان رد الفعل سريعاً هكذا ؟ ولماذا كان قوياً إلى هذا الحد؟
كان الرد الأميركي:
«مثًل الاعتداء العراقي جريمة فريدة، ما استحق رد فعل خشن بطريقة فريدة. وتقف أميركا مثلما وقفت ضد العدوان ومخترقي القانون. هكذا أخبرنا بوش الرئيس الوحيد في العالم الذي أدانته محكمة العدل الدولية».
وكررت وسائل الإعلام وراء إدارة بوش أن الأمم المتحدة أصبحت أخيراً قادرة على القيام بدورها الذي أنشئت لأجله وهو الذي استحال أيام الحرب الباردة.
مع ذلك لم تصل فظاعة صدام في الكويت إلى فظاعات أصدقاء أميركا في الهند الصينية ولا أميركا الجنوبية ولا أندونيسيا، ولم يكن رد فعل الأمم المتحدة السريع والقاسي إلا نتيجة عمل وضغط أميركا وموافقة بريطانيا وفرنسا على ذلك.
يردف تشومسكي:
تصدت أميركا جاهدة لإجهاض أي حل دبلوماسي، وبرفضها ذلك حققت أهدافها الرئيسية في الخليج فقبضت على مصادر بترول الشرق الأوساط وقبضت أرباحها الهائلة لتحسين اقتصادها واقتصاد حليفتها بريطانيا. بعد حصول ذلك كان هناك عبء على أميركا المحافظة على الوضع في المنطقة كلها، بما في ذلك صدام حسين ضد أي تمردات شعبية أو شيعية أو كردية، لكنها لم تنجح في ذلك. إن اسخدام القوة للسيطرة على العالم الثالث هو الحل الأخير عامة، فهناك الصندوق الدولي، وهو أرخص بكثير، وتليه أعمال الاستخبارات الأميركية والبحرية الأميركية مارينز ، لكن يجب دائماً التلويح بالقبضة القوية مع إجراء بيان عملي من حين إلى آخر.
عندما تفلح حكومة في تحقيق الاستغلال وتجعل جزراً تعيش في الثراء الباذخ وسط بحار من الفقر المقدع، فمن الضروري إيجاد وسيلة لإلهاء الشعب وصرف نظره. هناك وسائل قليلة وأكثرها تقليدية، إخافة الشعب من عدو مرعب يوشك على محاصرتنا، مع تبجيل قادتنا الواعين الذي يعملون ما في وسعهم لإنقاذنا. كان السوفيات ذلك البعبع، وكذلك كان القذافي وأعوانه الإرهابيون العالميون. والبعبع الموضة كان صدام بعدما ارتكب جريمته الوحيدة التي يستحق عليها العقاب، أي «جريمة الخروج من الصف»، في آب 1990. «أصبح ضرورياً الآن اكتشاف حقيقة أن العدو الرئيسي في العالم الثالث هو الخروج من الصف».
لكن يمكن تغيير ذلك كله، وهذا يحتاج إلى تغيير ثقافي واجتماعي ومؤسساتي وتغيير النظام الديموقراطي الشكلي إلى ديموقراطي حقيقي، يتجاوز دورية الانتخابات التي تأتي بمن يخدم مصالح أصحاب المال والأعمال.
غسيل الدماغ
الحرب هي السلام، الحرية هي العبودية، الجهل هو القوة. مصطلحات سياسية لها معنيان، أحدهما المعجمي المتعارف عليه، والثانية المعنى الذي يخدم إيديولوجية الأقوى. الديموقراطية مثلاً معناها اشتراك الشعب في إدارة شؤونه، لكنها تعني في إيديولوجية الأقوى نظاماً تتخذ فيه صفوة رجال الأعمال القرارات، ويشاهد عامة الناس ذلك بدلاً من أن يشاركوا فيه. «لدينا مؤسسات كبرى تبيع المشاهدين لأصحاب الأعمال، إذن لا عجب أن نجد صورة العالم التي تقدمها وسائل الإعلام انعكاساً ضيقاً ومنحازاً لمصالح البائعين والمشترين وقيمهم».
إذن من الذي يخطط السياسة الأميركية ويديرها في شؤونها كافة؟ إنهم حفنة قليلة جداً من محترفي السياسة وكبار رجال المال والإعلام، تهمهم في الدرجة الأولى مصالحهم، ثم تأتي مصالح الشعب الأميركي. إذن، هذا هو « العم سام « الذي يحكم أميركا والعالم ويقودهما. إنه الثالوث المقدس من رجال الحكم والمال والإعلام، يعملون بحسب المنهج الأميركي الخاص، وعصب الحياة فيه هو « القوة المال».