الكارثة تأتي من الأيدولوجيا أولاً: قيادة «إسرائيل» بارعة في تعقب خيارات مهلكة!
محمد نعيم فرحات
إنّ العقل السياسي السّويّ ومنطقه وخصائصه وآليات عمله كما تعهدها الدول الحقيقية، لا تستطيع أن تفسّر السياسة التي تنتهجها القيادات «الإسرائيلية» المتعاقبة في السنوات العشرين الأخيرة على وجه التحديد، لا بشأن القدس، ولا بشان استمرار الاستيطان، ولا إزاء التسوية السلمية كفرصة ثمينة ستعضّ عليها إسرائيل «العاتية» النواجذ بعد فوات الأوان، كما لا يستطيع العقل ذاته أن يبرّر حروبها المدمّرة والخاسرة، وصولاً إلى إفصاحها الأخير عن جوهرها الحقيقي من خلال القانون الحكومي الداعي إلى تأكيد يهودية الدولة، الذي تثبت من خلاله بأنها تشارك «داعش» نفس المنطق، ولا في إدراكها للمتغيّرات الخطرة التي يشهدها الاقليم، التي تقطع كلّ يوم مسافة 24 ساعة نحو حرب إقليمية عظمى ستكون إسرائيل في قلبها بالقوة باتت ضرورة وحاجة ماسة لإيجاد حلول لملفات الوجع والظلم والقهر والعدوان والاستباحة والهيمنة التي عانت منها المنطقة كثيراً، والمثير أنّ الطرف القادر على خوضها، والمستعدّ لأثمانها، والذي يراها ويعدّ لها هو الذي يؤجّلها، في عين اللحظة التي يتعامل الجميع مع هذه الاحتمالية وكأنها واقعة غداً.
إذاً، ثمة شيء آخر غير العقل السياسي وحكمته المفترضة، هو الذي يجب سؤاله لتفسير سلوك قادة «إسرائيل» من جهة، وكذلك لفهم النزوع اليمني الذي يتجذّر على نحو واسع عند التيار الرئيسي الغالب في رأيها العام من جهة أخرى، هو بالضبط رواسب الايديولوجيا والثقافة وأوهامهما الخطرة والمدمّرة، وكارل ماركس الذي أنتج واحدة من أعتى الايديولوجيات الوضعية، هو نفسه الذي قال محذراً «بانّ الايدولوجيا مصابة بزكام عدم التحوّل الى واقع»، فكيف سيكون عليه الحال عندما يتعلق الأمر برواسبها الصلبة وأمراضها وهلوساتها وتهويماتها؟ هنا بالضبط يمكن العثور على حشد من الأدلة التي تشير إلى غيبوبة الوعي الاستراتيجي عند قادة «إسرائيل» والعمى الشامل في البصر والبصيرة الذي يتحكم بهم.
ويستطيع عابر سبيل في السياسة ان يستنج بأنّ مصلحة «إسرائيل» الاستراتيجية والوجودية، لا تحتاج إلى التمادي في تهويد القدس، ولا إلى خنق أهلها الأصليين، ولا إلى ارتكاب المجازر الجغرافية والقانونية والإجرائية التي تمسّ حياتهم وعواطفهم وروابطهم وعلاقتهم بالمحيط وبالأفق وبالهواء وبالأمل وبالسماء معاً، كما أنها ليست بحاجة إلى اقتحام المسجد الأقصى، الذي هو، كما القدس وأكنافها، وديعة للسماء تركتها في الأرض وفي خيال الناس، اكثر مما هي حيّز ارضيّ له معنى سماويّ مكثف. بل على العكس لقد كان من مصلحة «إسرائيل» ودهاء تحققها اتباع سياسة تحاول ما استطاعت لذلك سليلاً، ألا تذكر الناس في كلّ لحظة بأنها تحتلّ القدس، وأن تعمل جاهدة على تجنّب عودتها كبؤرة جذب وتوتر وتعبئة تتجه لها الأنظار من خلال ممارسات لا طائل من ورائها.
كما أنّ وضع «إسرائيل» غير مناسب لبناء مستوطنة، لا وظيفة سياسية او أمنية لها، وليس من البراعة ولا من الذكاء في شيء، ابتداع «أدلة» وهمية تقنع بها نفسها، من أنّ محمود عباس والفلسطينيين لا يريدون السلام، وليسوا شركاء في صنعه، فيما الردّ على المتغيّرات الحاصلة في المنطقة عبر الإعلان عن «إسرائيل» كـ»دولة يهودية» هو تعبير عن وصول غباء القوة عند «إسرائيل» إلى ذروة مجنونة.
وعلى ضوء ذلك فإنّ كافة إجراءات «إسرائيل» وخياراتها في السياسة إزاء الفلسطينيين وحقوقهم، وفي تعاطيها مع اللحظة التي تمرّ بها المنطقة، لا تعبّر عن وعي سياسي أو استراتيجي مناسب من زاوية مصالحها، بمقدار ما تعبّر عن استفحال مرضيّ إيديولوجي يجري تحويله إلى دليل عمل يحكمها، يذكر العالم والعرب والمسلمين والمسيحيين الشرقيين ومعنيين آخرين بحقيقتها كدولة محتلة.
وبناء سياسات استناداً إلى منظور ايديولوجي كما تفعل «إسرائيل»، سيفضي بها كي تسجن نفسها داخل جدران خديعة، سيكون في وسعها فقط أن تتعقّب من خلالها بنجاح كلّ فرض الهلاك لما أنجزته سياسياً، وفي مكان ما تثبت «إسرائيل» التي تحتلّ القدس منذ 47 عاماً كتأكيد على صورتها في الخيال اليهودي منذ ألفيْ عام، بأنها لا تعرف المعنى الكامن للقدس في الوعي والمخيال الجمعي لشعوب المنطقة، ولا في وجدان السماء معاً، لقد أدّت القدس كما فهمها وأرادها ووظفها الوعي الصهيوني غرضها وقسطها نحو العلا السياسي في الحشد والتعبئة من أجل إقامة دولة «إسرائيل»، واليوم ها هي تتحوّل إلى كتلة من لهب بين يدي «إسرائيل» أكثر مما هي غنيمة ثمينة كما كانت في زمن التأسيس للاحتلال كفكرة، ثم مرحلة العمل عليه كمشروع يقوم على الأرض.
ومن يخرّب ممكنات السياسة ويهدّدها من خلال استيطان ايديولوجي، ويحمي تماسك الايديولوجيا بثمن المغامرة في الاستراتيجيا والمصالح الملموسة، ويذهب من حرب خاسرة الى أخرى، ليعود بمزيد من الجروح العميقة في وعيه وفي قدرته، هو بالتأكيد «عبيط» يلعب بمصيره، بثمن باهظ يدفعه ضحاياه، وبثمن راهن يدفعه هو نفسه اليوم، وسيدفعه غداً، من دون أن تكون له المناعة الوجودية التي تمكنه من رصيد كاف للاستمرار في ممارسة «العباطة» وما يترتب عنها من أثمان، و«إسرائيلي» حصيف اسمه يهوشعفاط هركابي قال يوماً «إنّ إسرائيل بحاجة إلى الايديولوجية قليلاً والى العقلانية كثيراً، وأنها بحكم طبيعتها لا تتحمّل أيّ خطأ وجودي» والعبيط المدجّج بالايديولوجيا، هو خطر على نفسه وعلى غيره ولعبته مكلفة ومدمرة في آن.
في ما يُسمّى «التراث الاسرائيلي» ثمة سرديات كثيرة عن الكارثة، منها أنّ «الكارثة تأتي من الشمال» بالمعنيَيْن: الحقيقي والمجازي للشمال، فيما خبرة الاحتلال «الاسرائيلي» المُستجدّة تتطلب أن يضيف الاسرائيليون في سفر أقولهم، بأنّ الكارثة قد» تأتي من الايدولوجيا أيضاً»
وفي دولة لديها مشاكل عميقة في القدرة رغم حقائق قوتها الهائلة، فإنّ تحالف «العباطة» مع «ظلامية» ايديولوجية صلبة، مع «تكفير» سياسي وثقافي معاً تشتغل في الزمن الخطأ وبالطريقة الخطأ، وتحويل هذا التحالف ومخرجاته إلى قيمة إجماع تحكم العمل السياسي الإسرائيلي والوعي الجمعي معاً، وإلى عادة ذهنية وممارسة راسخة، هو أمر خطير يحصل بينما الزمن يتغير في اتجاه أخر تماماً.
في دولة كهذه سيبدو من الجنون القول، بأنّ خلاص «إسرائيل» من مأزقها له طريق واحد فقط،، هو أن يعترف الإسرائيليون بأنّ الدولة التي أنتجوها هي دولة احتلال، تهدّد غيرهم كما تهدّدهم في العمق، وان يؤمنوا بالتخلص من الاحتلال كثقافة وكممارسات وكمخرجات وكتعبيرات وكموروثات وكتراكمات، والذهاب نحو خيار الاندماج في السياقات التي يعيشون فيها، وفقاً لمنطق الدولة الحديثة التي هربوا منها لإقامة «الدولة/الغيتو» مع ما يتطلبه ذلك من استحقاقات. والقول الذي يبدو جنوناً من زاوية نظر المجنون هو الذي يتعيّن قوله له لحثه على التخلص من جنونه!
كاتب وأستاذ جامعي من فلسطين