ما بعد اغتيال سليماني.. منظومات إقليمية ومتغيّرات استراتيجية
} أمجد إسماعيل الآغا
ضمن إطار الغموض السياسي والعسكري، يبدو أنّ الشرق الأوسط بات مهيّئاً للدخول في دوامة من الصراع الجديد. هو صراع مُتعدّد الأوجه، فما بين الحرب والسلام، والمواجهات الشاملة والتكتيكية، والبحث عن مكامن القوة وتوظيفها في سياق التطورات، تتمترس العديد من السيناريوات في خانة المنظومات الإقليمية الجديدة، والمتغيّرات الاستراتيجية المتسارعة، الأمر الذي من شأنه أن يفتح أبواب التأويلات والقراءات التي تصب على جوانب الأحداث والتطورات الشرق أوسطية، دون الغوص عميقاً في البحث عن مخارج تُجنب المنطقة حروباً كارثية، ودون اكتشاف طرق لمعالجة التصدّعات الإقليمية وترميمها، ودون التمكّن من سبر ماهية المرحلة المقبلة بتأثيراتها وحساسية تطوّراتها.
فاغتيال قائد قوة القدس الجنرال قاسم سليماني، يُعدّ نقطة تحوّل استراتيجية ليس في بنية الصراع الأميركي الإيراني وحسب، وإنما سيؤسّس بلا ريب لمرحلة تتشظى على جوانب صراعات المنطقة ككلّ، حيث أنّ هذا الاغتيال سينعكس على طبيعة التوازنات في المنطقة، خاصة أنّ جُلّ الأطراف الإقليمية تستشعر خطورة المرحلة القادمة، وهي بصدد البحث عن طوق نجاة، يتمثل في التماهي مع التطورات، وصوغ معادلات إقليمية بإطار استراتيجي صرف، لا سيما أنّ الشهيد سليماني وما يُمثله لمحور ممتدّ من طهران إلى دمشق مروراً ببغداد وصولاً إلى لبنان وفلسطين، كنقطة ارتكاز جغرافي لها عمق جيواستراتيجي. وبالتالي فإنّ اغتياله يُعدّ بداية التحوّلات العميقة في بنية النظام الإقليمي، الأمر الذي يشي بهندسة مسار استراتيجي جديد في المنطقة، كـ ردّ يوازي الفعل الأميركي.
وانطلاقاً من فلسفة وجدلية العلاقة التي أشار إليها عالم الفيزياء الألماني كان فون فايتسيكر بين الفيزياء والسياسة، فإننا نقول بأنّ هناك عدداً من القوانين الفيزيائية المشهورة قد أثبتت قدرتها على تشكيل قاعدة فلسفية متوازنة وصحيحة بشكل كبير ودقيق لبعض الظواهر السياسية، كقانون نيوتن الثالث في علم الفيزياء، وهو قانون فيزيائي شهير يقول بأنّ «لكلّ فعل ردّ فعل مساو له في المقدار ومضاد له في الاتجاه»، حيث أننا نجد انعكاس هذا القانون على بعض الظواهر السياسة الدولية الحديثة، وعلى رأسها رد الفعل الناتج عن المقدار الكبير في الاهتمام العالمي بظاهرة الإرهاب الدولي، او قانون مكافحة الإرهاب على سبيل المثال لا الحصر، حيث نجد في مقابل محاولات الاحتواء والكبح والضربات الاستباقية المتزايدة لهذه الظاهرة المصطنعة في كثير من الأحيان، فعل مساو لمقدار ذلك في انتشار تلك الظاهرة المركبة في مختلف أرجاء العالم. وعليه، فإنّ الفعل الأميركي باغتيال قاسم سليماني، لا بدّ أن يقابله ردّ فعل مساو له في المقدار ومضاد له في الاتجاه. هذه القاعدة ترجمها محور المقاومة مجتمعاً لجهة إخراج القوات الأميركية من المنطقة، كردّ على اغتيال سليماني، خاصة أنّ القرار الأميركي لم يكن محض صدفة أو حدثاً عارضاً يأتي في سياق الصراع الأميركي الإيراني، فالواضح بأنّ هذه العملية قد خُطط لها بعناية استراتيجية فائقة، وجاءت في توقيت أدركت من خلاله واشنطن، بأنّ وجودها في المنطقة بات على المحكّ، خاصة خلال العقد الأخير الذي تعاظمت به مُنجزات محور المقاومة ككلّ، مع ارتفاع منسوب القلق لدى حلفاء واشنطن في المنطقة، جراء إخفاقها في الكثير من المسارات السياسة والعسكرية.
وبالتالي كان اغتيال سليماني ضرورياً حسب وجهة النظر الأميركية، فبهذا الاغتيال قد يتمّ إحداث فالق استراتيجي في معادلة محور المقاومة، والتي تقوم أساساً على تهيئة المناخ السياسي والعسكري بطريقة تصاعدية تكتيكية، للبدء الفعلي بحرب إخراج واشنطن من المنطقة، وتأطير تأثيراتها العميقة في مُجريات الشرق الأوسط.
سليماني وما يُمثله لجهة ضابط إيقاع مواجهة الخطط الأميركية في المنطقة، فقد كان الأداء العسكري لهذا الرجل يقوم على العديد من النظريات الاستراتيجية، التي لهثت وراءها مراكز الأبحاث الأميركية واستخباراتها، لتفكيك طلاسم هذه النظريات، والعمل ضدّها بطريقة تُحجم تأثيراتها وتفرّغها من أبعادها الزمانية والمكانية. هنا، فإنّ الحدث الأميركي قد تمّ، لكن ما بعد هذا الحدث يشي ببداية مسار استراتيجي ستسلكه الأحداث القادمة، لا سيما أنّ طهران وحلفاءها أعلنوا أنّ الردّ سيكون عبر إخراج أميركا من غرب آسيا، كما أنّ روسيا وكذا الصين وتركيا، قد قرأوا الفعل الأميركي وفق معاييرهم ومصالحهم الاستراتيجية، فالجميع متفقون على ضرورة وضع حدّ لواشنطن في المنطقة عموماً، كما أنّ الجميع يرى في الاغتيال فرصة مناسبة لترجمة طموحاتهم المضادة تجاه واشنطن، الأمر الذي يعني في مُجمله، بأنّ دمشق وطهران وبغداد وموسكو وأنقرة وبكين، باتوا ضمن حلف استراتيجي غير مُعلن، لكن سياساتهم ستكون واحدة موحدة في سبيل القبض على واشنطن بجرم فعلتها، وإسقاطها في سياق يصبّ مباشرة في مصلحتهم.
فالأهداف الاستراتيجية لهذه العواصم، تقتضي التنسيق فوق الطاولة ومن تحتها، كما أنّ واشنطن أدركت بُعيد فعلتها، بأنّ الزمان والمكان والشخصيات التي تمّ اغتيالها، سيؤسّس لـ منظومات إقليمية ومتغيّرات استراتيجية، ستحتاج وقتاً طويلاً لفهم ماهيتها والعمل على معالجتها.
القوى الإقليمية والدولية في الشرق الأوسط، باتت اليوم تعمل في نطاق واحد، فالتجاذبات السياسية ومثلها العسكرية التي هندستها واشنطن في المنطقة، سيتمّ التعامل معها وفق ميزان الأولويات والمصالح المشتركة، كما أنّ مشروع محور المقاومة يتقاطع في الأهداف مع مشاريع باقي القوى الإقليمية والدولية، خاصة أنّ واشنطن تسعى عبر زيادة عديد قوّتها في المنطقة، لتثبيت سيطرتها وهيمنتها، دون الحاجة لعمل عسكري كما في السابق، وبهذا تضمن السيطرة المباشرة على منابع الطاقة والطرق التجارية، لكن بإطار عسكري، وهذا ما يُهدّد مصالح باقي القوى الإقليمية والدولية. فـروسيا مثلاً، وجدت عبر البوابة السورية ممراً لها إلى كلّ مسارات الشرق الأوسط، كما أنّ تحالفها مع سورية وإيران أعطى موسكو بعداً استراتيجياً دولياً، وبهذا منعت الولايات المتحدة من محاصرتها في نطاقها الإقليمي، وتحجيم قوتها السياسة والعسكرية، لذلك تجد روسيا في التحالف مع إيران وتركيا، تعطيلاً مباشراً لأهداف واشنطن تُجاهها، كما أنّ مهادنة اسرائيل وأوروبا يصبّ ايضاً في مصلحة موسكو تجاه الخطط الأميركية، مع التركيز الروسي على التحالف مع دمشق انطلاقاً من موقعها الجيواستيراتيجي بالمقاييس كافة.
صفوة القول، إنّ استشهاد الجنرال قاسم سليماني ورفاقه، قد فتح العديد من الأبواب التي بقيت مُغلقة لعقود طويلة. هي أبواب أوصدتها واشنطن بهيمنتها وسطوتها السياسة والعسكرية. أما اليوم وباغتيال سليماني، فإنّ التطورات ستتخذ مساراً استراتيجياً ناظماً لمُجمل سياسات محور المقاومة ككلّ، وستكون القاعدة المُؤسسة لهذا المسار ضمن إطار ما قبل سليماني وما بعده، فـجغرافية الردّ باتت مفتوحة، وواشنطن تدرك ذلك، فعملية الاغتيال لم تكن محض صدفة، ولم تكن حدثاً عارضاً يأتي في سياق كباش عسكري بين محورين، خاصة أنّ الحسابات الأميركية لم تُدرس جيداً، الأمر الذي تعكسه وسائل الإعلام الأميركي، لجهة المخاوف من تداعيات هذه العملية، فالتقديرات الاستراتيجية الخاطئة ستليها سلسلة من الخسائر المتسارعة سياسياً وعسكرياً، لا سيما أنّ اغتيال أيقونة الحرس الثوري الإيراني، تنطوي على سوء تقدير استراتيجي، الأمر الذي يشي بظهور منظومات إقليمية جديدة، تؤطرها متغيّرات استراتيجية عميقة في الشرق الأوسط.