ماذا يريد السيسي من تجديد الفكر الدينيّ؟
} د. وفيق إبراهيم
أثار اقتراح الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي حول تجديد الفكر الديني قلقاً عميقاً لدى فريقين إسلاميين: الإخوان المسلمون المعادون له، والإسلام الرسمي المبايع له بانصياع كامل.
أما التنظيمات الإسلامية المتطرفة فلم تشعر أنها معنية بهذا الاقتراح، لأنها تعرف بعمق أنه للمزيد من الاستثمار السياسي في الدين لمصلحة النظام الحالي، بمعنى أنها تشكّل جزءاً من الدولة بفريقها السياسي المتجسّد في السيسي وإسلامها الأزهري والاخوان. وهي لا تقبل إلا بإسقاط كامل هذه الأقسام لمصلحة دولة “خلافة” خاصة بها ولا مكان فيها للتسويات وأنصاف الحلول.
لذلك يبدو اقتراح السيسي وكأنه بحثٌ وتنقيبٌ عن فتاوى إسلامية جديدة تبيح له توطيد استقرار سياسي مزمن لنظامه. وهذا يتطلب تغطية أزهريّة لإبادة الاخوان المسلمين بتحميلهم مسؤولية التخلّف في مصر. بما لا يصيب على الإطلاق القوى الإرهابية إلا إذا استدعت الضرورة ذلك بطلب أميركي صريح.
ماذا يعني تجديد الفكر الديني؟ الدين نفسه غير قابل للتجديد، وما هو ممكن يتعلق بتجديد الفهم الديني بمواكبة التطورات العالمية في السياسة والاقتصاد والعلاقات والثقافات والاجتماع الإنساني. فليس مقبولاً الاستناد إلى تفسيرات مصنوعة في القرون الوسطى أو أحاديث منسوبة إلى أئمة وأنبياء اخترعتها السلطات السياسية لتوطيد سياستها بواسطة علماء الدين يعملون في خدمتها.
هذا ما دفع الدول الإسلامية الحديثة إلى التمسّك بهذا الفكر الديني الذي يساهم إلى جانب السيطرة الخارجية في تجميد مجتمعات هذه الدول عند حدود القرون الوسطى، وربما قبل ذلك بقرون عدة.
فهل هناك بلد في العالم تقوم سلطته على نظرية “السمع والطاعة لولي الأمر حتى ولو ضربك على ظهرك”. أو أن هذا الولي هو وكيل الله على الأرض، ولا يوجد بالتالي ما يعيق أوامره التي يجب أن يطبّقها المواطنون من دون أي تذمّر.
وهل بوسع رجل دين غربي أن يقول أمام وسائل الإعلام أنه يحق للرجل ضرب المرأة، شرط أن لا يكسر عظمها؟ هذا ما أفتى به مفتي الجامع الأزهريّ، وهو أهم مسجد إسلاميّ في العالم، وأئمته هم بالتالي أصحاب أهم مواقع دينية إسلامية، فلو تجرأ قسيس أو مطران غربيّ على الإدلاء بمثل هذا الرأي لما بقي دقيقة واحدة في موقعه الديني حتى الاجتماعي.
فهل هذا ما يريد السيسي تغييره؟ إن استخواذ الدولة المصرية على كل المؤسسات الدستورية وقمع أي محاولة لتحديثها ورفض اللجوء إلى انتخابات صحيحة وتصعيد القمع البوليسي الأمني، خصوصاً أن السيسي عاكف على تعديلات دستورية لتمديد ولاياته الرئاسية حتى 2030 فقط.. مع إمكانية أن يحول الموت تجديدها.
إن إنتاج الحكومات والمجالس النيابية في مصر لها شكل ديمقراطي، إنما بمضمون ديكتاتوري.. وذلك لإضفاء تجميل خارجي لمضمون مشوّه وأوتوقراطي يعاود صناعة البنية الدستورية التي تنصّب السيسي ولياً لأمر مصر حتى انقضاء الساعة.
هذا عن الجانب الداخلي، أما الخارجي فيربط مصر منذ 1979 تاريخ معاهدة كمب ديفيد بالأميركيين دولياً و”إسرائيل” إقليمياً والخليج عربياً، إنما مقابل هبات ومساعدات؛ لذلك فإن أولويات السيسي هي توفير حمايات سياسية وخارجية لنظامه. وهذا يتطلب دوراً دينياً من الإفتاء الأزهري، تحت عنوان التجديد الديني.
ما يسمح التأكيد أن هذا التجديد ليس سوى محاولة لتعميق الانصياع الاجتماعي لمصلحة نظام هو استمرار لدولة “كمب ديفيد”… وتوفير إسناد شعبيّ في مواجهة الاخوان المسلمين… فتصبح المعادلة الأقوى هي دولة السيسي ومعها الإفتاء الأزهري والجيش مقابل الاخوان المسلمين الذين يشكّلون قسماً هاماً من المصريين، ولا يرضى بهم الأميركيون ويهابهم الخليجيون الذين يدعمون أي دولة أو مؤسسة معادية لجماعة حسن البنا تاريخياً وأردوغان حالياً.
إن وضع مصر اليوم متدهور جداً، والدليل أن 75 في المئة من سكّانها فقراء وتحت خط الفقر.. ما دفع بالسيسي إلى السماح ببناء قواعد مصرية – أميركية – “إسرائيلية” في البحر الأحمر لتأمين باب المندب في وظيفته الأميركيّة الجيوبوليتكية مع سيطرة سعودية على اليمن، يكفي أن شراء مصر لغاز “إسرائيلي” من فلسطين المحتلة يؤدي إلى دعم الكيان المحتل وتمرير صفقة القرن الأميركية لإنهاء قضية فلسطين.
فهل يندرج هذا الأمر في خانة تجديد الفكر الديني؟ وهل يتمكّن الأزهر من تحديث ابتكارات تدّعي وصلاً بالإسلام؟ فمثل هذا التطور يؤدي إلى إنتاج رفض شعبي للنفوذين الأميركي والإسرائيلي.. ولا يقبل بهيمنة للسعودية والإمارات على مصر الضاربة آلافاً عدة من السنوات في عمق التاريخ بسكانها الذين يزيدون عن المئة مليون نسمة.
فإذا سأل المصري نفسه عن الفارق بين وضعه في مرحلة السادات في 1979 أو بين عصر السيسي في 2020 لاكتشف أن كل وعود الأميركيين بعصر مصريّ متقدّم ليس إلا كذباً ورياء. فمصر اليوم أفقر مما كانت عليه. هذا ما يدفع إلى القول إن تجديد الفكر الديني حسب طموح السيسي ليس إلا إضافة قمعية لتكبيل المصريين بنظام عبد الفتاح السيسي وسجن مصر في إطار “كمب ديفيد” والولاء السعودي لقرن جديد.