عندما يستهلك المتآمرون حججهم… تكون النتيجة «اجترار الكلام»!

إعداد وترجمة: ليلى زيدان عبد الخالق

عرّابو «الربيع العربي» اعترفوا بكذبتهم ومؤامرتهم، وثمّة أقلام لا تزال تتغنّى بـ«الربيع العربي». مهندسو المؤامرة كُشفت أوراقهم، وثمّة أقلام لا تزال تدافع عن هذه المؤامرة وتسمّيها «ثورات». العالم كلّه، وربما لو كانت هناك حياة على المرّيخ أو في مجرّة أخرى، لعرف أحياؤها أنّ ما تعرّض له الشرق الأوسط خلال السنوات الأربع الماضية مجرّد فصل من فصول المؤامرة، وثمّة أقلام لا تزال «تجترّ الكلام».

عجبي من تلك الأقلام التي لا تزال تقدّم الخدمات مجّاناً للمتآمرين الذين يدرسون يومياً سبل الحفاظ على مؤامرتهم من الانهيار. عجبي من تلك الأقلام التي ما زالت تعيش الأوهام. أربع سنوات والدولة السورية بقيادتها وشعبها وجيشها صامدةٌ في وجه الحرب الكونية المعلنة عليها سرّاً وجهاراً، وهناك من يجترّ الكلام عن «الثورة السلمية» و«المعارضة» وزرع الشقاق بين مكوّنات الشعب السوري.

إلا أننا في صدد مقال فيه من الجديد أمور عدّة. فإذ أعاد إلى الواجهة أكذوبة «الثورة السلمية»، إلا أنّه يلعب هذه المرّة على الوتر العلوي، الطائفة التي ينتمي إليها الرئيس السوري الدكتور بشار الأسد. في محاولة من كاتبة المقال لزرع الشقاق بين العلويين والسنّة من جهة، وبين العلويين أنفسهم ـ موالين للرئيس ومعارضين له ـ من جهة ثانية. في محاولة رخيصة، حتّى الأميركي يخجل من البناء عليها.

ولعل أكثر ما يثير العجب في هذا المقال الذي نُشر في موقع «فورين آفيرز»، أنّ كاتبته تصدقق نفسها حين تتحدّث عن «الاغتيال المدبّر الذي حصل عام 2012 لعدد من المقرّبين من الرئيس الأسد، بمن فيهم صهره آصف شوكت»!

نقاط كثيرة مثيرة للجدل في هذا المقال، إذ إنها تنطلق من فرضيات أثبتت الأحداث كذبها، وتبني على أوهام تخصّ الكاتبة وحدها، فالشعب السوري بأطيافه كلّها ملتفّ حول دولته وجيشه، ويقاتل إلى جانبهما، ولن يستبدلهما بـ«معارضة متطرّفة دموية»، ولا حتّى بـ«معارضة معتدلة عميلة».

كتبت علا أبو الحميد الرفاعي:

يرى عدد من المسؤولين داخل الدوائر السياسية في واشنطن، أنّ الأقلية العلوية تشكّل فقاعة متجانسة في الداخل السوري. ومع ذلك، ظهرت في الأشهر القليلة الماضية إشارات تدلّ على اقتتال داخل «عشيرة بشار الأسد»، واستياءٌ متزايد من العلويين أنفسهم، ممّن ينتمون بمعظمهم إلى الأجهزة الأمنية والعسكرية المؤيدة للأسد. فالعلويون الذين يتطلّعون إلى سقوط نظام الأسد، بدأوا يخافون من انتقال السلطة إلى السنّية المتطرّفة التي ستبطش بهم. ومن الواضح، أن واشنطن تهتمّ بإبراز هذا التصدّع في عائلة الأسد والمقرّبين منه إلى العلن، وأمام مؤيديه ومعارضيه ممن يقيمون في المناطق السورية الساحلية الواقعة على طول البحر الأبيض المتوسط.

ظهرت بوادر التوتر بين أوساط المقرّبين من الأسد للمرّة الأولى في آب الماضي، عندما دعا دريد الأسد، ابن عم الرئيس إلى استقالة وزير الدفاع السوري فهد جاسم الفريج، وذلك بعد إعدام «داعش» 120 جندياً سورياً في قاعدة الطبقة الجوّية. ووفقاً للوسائل الإعلامية، فإن قريباً آخر للأسد يدعى حافظ مخلوف، رئيس الاستخبارات في دمشق، استقال من منصبه «طوعاً».

وأطلق، في الوقت عينه، ناشطون علويون يقطنون المناطق الساحلية على الوزير الفريج لقب «وزير الموت»، وهتفوا في حملتهم بشعارات مثل «التكلّم بصوت عالٍ ضدّ الأسد»، محتجين على ارتفاع أعداد الضحايا العلويين منذ بداية الصراع. وفي الشهر عينه، اعتُقل محامٍ معارض للنظام بعد إنشائه «هاشتاغ: وينن» للمطالبة بالكشف عن أسماء هؤلاء المئة والعشرين الذين أعدمهم «داعش».

يطالب الناشطون العلويون بتغيير النظام، كما لوحظ في بيان صدر مؤخّراً عن مجموعة تطلق على نفسها «تجمّع العلويين السوريين».

قُتل أكثر من 8000 عسكرياً موالياً للنظام في منطقة جبلة العلوية على ساحل اللاذقية منذ بداية الصراع في سورية، عدا عن آلاف غيرهم من العلويين ممن قتلوا في مناطق أخرى. نزل عوائل الشهداء إلى شوارع اللاذقية في آب الماضي مطالبين بإعادة جثث أبنائهم وأغراضهم الخاصة، هاتفين «سنحضر جنازة ابنك بإذن الله». وما لبث أن طالب المئات منهم في تشرين الأول الماضي وتحديداً في حمص، بإسقاط المحافظ طلال البرازي بعد انفجار سيارة مفخّخة قرب مدرسة «عكرمة مخزومي الإعدادية»، والتي أسفرت عن مقتل أكثر 17 طفلاً وجرح العشرات. وطالب المحتجّون أيضاً في طرطوس بتنحّي الأسد، ووفقاً لبعض الناشطين، فإن أهالي الأسَر البارزة في المجتمع العلوي يناقشون جدّياً سبل استبدال الأسد.

هذا الانقسام الحاصل في المجتمع العلوي ليس بجديد: فهو يعكس ردّ فعل عنيف على تفضيل الأسد «عشيرة الكلازية العلوية» التي تنتمي عائلته إليها. فلطالما كانت هذه العشيرة محمية في أماكن تواجدها على المناطق الساحلية خلافاً لغيرها من العشائر، كعشيرة الحيدرية التي يُجبر أفرادها على الالتحاق بالخطوط الأمامية في الجبهة لقتال «المعارضة السورية». ازدادت التوترات بين العائلات العلوية: فبينما تعيش عائلات علوية في بذخ وترف، يناضل باقي المجتمع لإطعام أطفاله. وكذلك، فإن العلويين ممن يعيشون في العاصمة، مرتبطون ارتباطاً وثيقاً بعائلة الأسد ويتمتعون بامتيازات سلطوية. وفي المقابل، فإن دخل مزارع أو صاحب متجر صغير مقيم في اللاذقية أو في القرداحة، مسقط رأس الأسد، يعدّ متوسطاً فضلاً عن محدودية نفوذهم السياسي، إلّا إذا كان أحد أفراد هذه العائلات يعمل لمصلحة النظام.

ومن المفارقات اللافتة، أنّ العلويين المقيمين في دمشق منذ سنوات يميلون إلى اعتبار أنفسهم دمشقيين، إلا عندما يرتبط الأمر بالمنفعة أو بإخبار الآخرين بصلتهم المتميزة مع النخبة السياسية. ومثل هذه العلاقة تمنحهم الفرصة للحصول على الخدمات وهامش أكبر من الحرية كالتهرّب ـ في بعض الأحيان ـ من القضاء أو من بعض القوانين المنصوص عليها في الدستور. ويكفي أحياناً ادّعاء أحدهم بأنه علويّ أو أن يتحدّث باللهجة العلوية، ليفرض سلطته وهيمنته على الآخرين، ويجبره على الخضوع له.

أما في منطقة اللاذقية الجبلية، فيتجلّى الانقسام الاجتماعي الاقتصادي بوضوح: إذ نلاحظ اجتماع الفقر الشديد والغنى الفاحش في حيّ واحد، بما فيها القرداحة. والمعروف عن رجال «عشيرة الأسد» وأصدقائهم وحلفائهم امتلاكهم الفلل الضخمة، الدراجات الهوائية، والسيارات غير المرخّصة، أي التي تدخل إلى البلاد خلسةً. وبالعودة إلى الماضي، إلى صور الأطفال الحُفاة الذين يعيشون في بيوت صغيرة من الطين تصل إليها الكهرباء بشكل متقطع ومياه غير مطابقة للمواصفات، حفنة قليلة من هؤلاء الأطفال أصبحوا الآن يتصرّفون كالملوك وقد أصبحوا فعلاً ملوكاً. أما اليوم، فالغالبية الأعمّ من هؤلاء الفلاحين المتواضعين، هم الذين يدفعون الأثمان الباهظة في الحرب وعلى الجبهات وهم أنفسهم يتظاهرون ضدّ النظام… لكنهم عديمي القوة. ففي الواقع، إن صور الضحايا السوريين المسرّبة خفيةً والتي وصلت إلى متحف «ذكرى الهولوكوست» عن طريق عنصر من الجيش السوري، أطلق على نفسه اسم «قيصر»، شكّلت دليلاً حسّياً على أن المجتمع العلوي هو أيضاً أحد ضحايا الوحشية الأسدية.

تشهد المعسكرات العلوية المؤيّدة والمعارضة انقساماً عمودياً حادّاً، ومع ذلك، فلا تشكل هذه الحقيقة أنباءً طيبة لـ«المعارضة السورية». فعلى سبيل المثال، وخلال الاحتجاجات الأخيرة في طرطوس، طالب المحتجون العلويون بإسقاط نظام الأسد والمعارضة على حدّ سواء. ومن الواضح، أن انقلاباً عسكرياً ضدّ الأسد يبدو بعيد التحقق، حتى عندما يفترض أحدهم ارتفاع الاستياء داخل دائرة الأسد الضيقة نتيجةً للاغتيال المدبّر الذي حصل عام 2012 لعدد من المقرّبين منه، بمن فيهم صهره آصف شوكت.

وعلى رغم ارتباط النخبة العلوية السياسية بالفساد وبإساءة استخدام السلطة، فإن بعض المجتمعات العلوية في الأرياف لا تزال أقلّ «تلوّثاً». فحافظ الأسد، والد بشار الذي حكم سورية منذ عام 1970 وحتى مماته عام 2000، لم يكن فقط قائداً سياسياً بالنسبة إلى العلويين، بل كان أيضاً بطريركاً ورمزاً دينياً، على رغم ازدرائه المبكر للتقاليد العلوية. ولهذا، فإن الغالبية الأعمّ من الطائفة العلوية لن تتمرّد على ابن زعيمها المبجّل الموقّر. ففي عالم مثاليّ، لا بدّ للعلويين والسنّة من التصالح والتآزر للإطاحة بنظام الأسد وبالتالي، هزم «داعش». لكن الواقع مريرٌ وبعيدٌ كلّياً عن مثل هذه الشعارات الحالمة. فهناك هوة كبيرة من عدم الثقة بين هذين الفريقين، كما بين السنّة وغيرها من الأقليات الدينية، كالمسيحيين والأكراد السنّة. أما أسباب هذا الانفجار الحادّ لهوة انعدام الثقة، فيأتي نتيجة عدم وجود أيّ عِقد اجتماعي يحدّد حقوق كلّ مجموعة وواجباتها ومسؤولياتها، ونتيجة لفشل المعارضة السورية في معالجة ما قد يؤول إليه العلويون وغيرهم من المجتمعات الكثيرة التي تسعى إلى السلطة.

بدأ الحراك السوري سلمياً عام 2011 وذلك لستة أشهر متتالية، إذ تظاهرت كافة أطياف المجتمع السوري ضدّ ديكتاتورية الأسد، لكنها انتهت ببدء العنف نتيجة تحالف الأسد مع إيران من جهة، واقتتال الجهاديين مع النظام ومع «المعارضة السورية» من جهة أخرى. إن وضع حدّ للصراع الحالي لا يتطلّب فقط إزاحة الأسد من السلطة، بل التخلّص من مجمل نظامه الاستبدادي. كذلك فإن استبداله بقائد آخر، وفقاً لما تصبو إليه بعض المجتمعات العلوية ليس كافياً. كما أن تحوّلاً جذريّاً في النظام يتيح إمكانية وصول رئيس إلى السلطة عن طريق انتخابات ديمقراطية لن تكون سوى الخطوة الأولى في حلّ النزاع الحالي القائم في سورية. ويتطلّب القيام بذلك، بناء ثقة حقيقية بين أطياف المجتمع السوري من خلال المشاركة العادلة في السلطة وصوغ دستور جديد للبلاد.

أما الآن، فلا يزال الأسد يلقى الدعم من العائلات العلوية ـ وقد يكون السبب الرئيس في ذلك خوفهم على مصيرهم في ظلّ سيطرة «الجهاديين» على سورية. لكن لا بدّ من تسليط الضوء على عدم تجانس الطائفة العلوية، والذي أصبح واضحاً في الفترة الأخيرة، ما قد يشكل فرصة حيوية للمصالحة بين مختلف الجماعات الدينية. وهنا، لا يُفترض بواشنطن أن تهتم بالمعارضة العلوية، وألا تعمل على إعاقة تحرّكات حلفائها في سورية من «معارضة» وقبائل محلية كما يُفترض أن يتمتع العلويون بحق التظاهر ضدّ نظام الأسد، وأن تتحضر المعارضة جيداً لتلقف هذا الواقع ليكون بمثابة حجر الأساس الذي يُعبّد طريق المصالحة. إن الدعم السياسي والعسكري من قادة العالم الحرّ، وتحديداً من الولايات المتحدة سيضع حدّاً للصراع في سورية لكن مثل هذا الدعم يتطلب التعرّف على الانقسامات الطائفية الدقيقة للمساعدة في التخفيف من الاختلالات السياسية داخل سورية بدلاً من الإضافة إليها.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى