بونفوا قارئاً مالارميه الذي بُعث مجدّداً بمفتاحٍ ذهبٍ لآخر خزائنه الروحيّة

كتب حسونة المصباحي: «في المقدمة التي خصّصها لمجمل أشعار ستيفان مالارميه الصادرة لدى دار «غاليمار»، كتب الشاعر الفرنسي الكبير إيف بونفوا يقول: «فهْم مالارميه كان دوماً عسيراً ومستعصياً. غير أنني أرى أنه كلّما تعلّق الأمر به، هو أحد مؤسسي حداثتنا الشعريّة، فإنّ علينا ألاّ نتردّد في العودة إلى ما يمكن أن يبدو كما لو أنه بعيد عنه: البنى الكبيرة للفكر القديم».

يشير بونفوا إلى أنّ مالارميه أحسّ في بداية حياته بخيبة شديدة إزاء التحولات التي أحدثتها الثورات العلميّة والعقليّة، انطلاقاً من نهاية القرون الوسطى في مجال العلاقة بين الإنسان والأشياء، منهية بذلك تلك الدهشة التي لازمت القدماء لدى وقوفهم أمام أسرار الطبيعة وألغازها. وتتبدّى خيبة مالارميه بحسب بونفوا من خلال قصيدتة «السمفونيّة الأدبيّة» التي كتبها عام 1864، معبّراً من خلالها عن تحسّره على موت الفكر القروسطي القديم.

حول قصيدة «السمفونيّة الأدبيّة» التي اعتبرها «مفرطة في المبالغة وساذجة، غير أنها مسكونة إلى حدّ الارتجاف بشهوانيّة متقدة»، كتب بونفوا: «في كلّ أبيات «السمفونية الأدبيّة» ثمّة روح تريد أن تستيقظ في جنّة، ربّما لا تمثّل غير تلك الرغبة في الحضور داخل النور الربّاني لتلك الأشياء ـ الكائنات ـ التي لا ترتقي إلى صفائها من دون فقدان مظاهرها الأشدّ حَسّاويّة، والأكثر حسّية». ويضيف بونفوا أن هذا التأثر بالفكر القديم لم يكن عابراً، إنما هو استمرّ حتى في مرحلة النضج. وهناك عديد القصائد في المرحلة الأخيرة التي تؤكد بلا شك أن الفكر القديم لم يكن مجرّد حلم أو حنين مشوب بنوع من العاطفة الدينيّة، إنما هو عنصر أساسيّ في عالم مالارميه الشعريّ. ورغم من أن العلم كان كشف أن الأشياء لا يمكن أن تدرك إلاّ من الخارج، فإن مالارميه ظلّ مصرّا على مواصلة ما كان شائعاً لدى الزّهاد المسيحيين القدامى، أي معرفة الأمور من داخلها.

لعل مالارميه وجد في تجربة كلّ من بودلير وإدغار آلان بو بعدما نقل إلى لغته الأم قصيدة هذا الأخير المشهورة «الغراب»، ما ساعده على اكتشاف أن الشعر الذي يجمع بين الأصوات والمعاني، وبين الموسيقى والأفكار، وحده القادر على تجاوز المفارقة بين الواقع والاختيار المعرفي. ومنتشياً بهذا الاكتشاف الرائع، كتب مالارميه معرّفاً بالشاعر الحديث: «إن الشاعر الحديث يسير ملكاً عبر فتنة جنّة العصر الذهبيّ، ممجداً إلى ما لانهاية نبل الأشعّة، وحمرة الورود، والحمائم، وطيور التمّ، وأيضا البياض الساطع للزنبقة الصغيرة والأرض السعيدة».

بعد هذا الاكتشاف، بدأ مالارميه ما سمّاه بـ»الحفر في الكلمات». وهذا «الحفر» الذي أرّق الشاعر وعذّبه طويلا حتى أنه كان يسقط على الأرض من فرط الإعياء، كان الهدف منه بلوغ أقصى ما تستطيع أن تعبّر عنه الكلمــات.

غير أن هذا «الحفر» المجهد سرعان ما يرتدّ بالشاعر إلى الفشل الذريع، فإذا به يقف مجدّداً وهو واهن القوى أمام هاوية العدم. لكن ذات فجر ساطع الألوان، يستيقظ الشاعر ويتأمل مبهوراً صفاء السماء، وألق النجوم وهي تنطفئ الواحدة بعد الأخرى، فيعاوده الحنين إلى الحفر في الكلمات بحثاً عمّا يمكن أن يعيد إليه سحر الشعر، وفتنة المجهول. وتطول الليالي، ويطول البحث.

لكن من دون جدوى. ومرة أخرى ينطفئ الحلم، وتخمد الكلمات، وتنفتح هاوية الفراغ والعدم. ولتفسير هذا الأمر، يقول بونفوا: «تأكد مالارميه من أن الجملة التي ننطقها ليست تصوراً بسيطاً فحسب، بل اتصال مباشر بالواقع الذي تسائله، وتصوّره، ولكنها مكان يعرّض فيه الكائن البشريّ نفسه لخطر السقوط في الفراغ».

بعد إحباط استمرّ عدة أشهر، يعود مالارميه إلى الورقة البيضاء، ويكتب إلى أحد أصدقائه في 16 تموز 1866: «بالنسبة إليّ، يمكنني القول إنني عملت خلال هذا الصيف أكثر من جميع فترات حياتي. ويسعني القول أيضاً إن ما قمت به كاف لحياتي برمتها.

لقد وضعت أسساً لعمل رائع. لكلّ إنسان سرّ في داخله. والعديد من الناس يموتون من دون أن يعثروا على ذلك أما أنا فقد متّ ثمّ بعثت مجدّداً بمفتاح ذهبيّ، هو مفتاح آخر خزائني الروحيّة».

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى