صفقة القرن ثقافة راسخة وليست نزوة عابرة
ناصر قنديل
منذ جاء المهاجرون الأوائل إلى القارة الأميركيّة وهم يحملون ثنائية ثقافية قوامها عرض شراء الأرض بالذهب وفرض إجلائها بالدم إذا تعذر الشراء. وبهذه الثنائية سيطر المهاجرون تجار الذهب على ما صنعوا له فلسفة أسموها أرض الميعاد على حساب وجود وتراث السكان الأصليين. وجاءت النتيجة واضحة تدمير كل ما يتصل بالسكان الأصليّين، وبناء مجمّعات سكنية لما تبقى منهم في المناطق التي لا تتمتع بقيمة عقارية أو بأهمية عسكرية.
بالثقافة ذاتها جاء المستوطنون الصهاينة إلى فلسطين، وكثيرة هي الحكايات عن خدع شراء الأراضي بدعم المستعمر البريطاني في فلسطين، وعندما حانت ساعة إعلان الكيان الغاصب لفلسطين تمّت إبادة وتهجير سكان الأرض الأصليين الذين يشكّلون تلك الأغلبيّة التي صعب شراء أراضيها، ويعرف كل مَن يتابع مسار القضية الفلسطينية أن قضية ترسيم الحدود التي يجري التفاوض عليها لقيام دولة فلسطينيّة كانت دائماً أقل استعصاءً من قضيتي القدس واللاجئين. فقسمة العقار ممكنة إلى حدّ معين هو حد المصلحة، ببعدين حيويّ تجارياً ومفصلي أمنياً، لكن تقاسم الرموز الثقافية والإخلال بالتوازن السكاني خطوط حمراء.
في مطلع الستينيات من القرن الماضي وفي ذروة الحديث عن أميركا الداعية لنشر العدل بعد الحرب العالمية الثانية طرحت مقاربة أميركية بسعي من الرئيس الأميركي روبرت كينيدي عرفت باسم صاحبها مبعوث كينيدي الخاص جوزف جونسون. وقامت على ثنائية حل مشكلة البؤس لدى الفلسطينيين ومشكلة الخوف لدى اليهود، وحلّ البؤس الفلسطيني بمشاريع إنعاش ماء وكهرباء وطرقات، أما مشكلة الخوف فهي رسم خطوط حمر للتوازن السكاني وللحدود الجغرافيّة بحسابات الأمن.
صفقة القرن ليست مجرد نظرية تاجر العقارات دونالد ترامب ومحاميه المتخصص بالعقارات جيسون غيرنبلات، بل هي ثمرة هذا العمق الثقافي للثنائية الأميركية التقليدية الذهب والدم والتي تشكلت منها الخبرة العقارية لترامب وغرينبلات. ومضمون الصفقة هو مزيد من الأرض لـ»إسرائيل» ومزيد من الذهب ومزيد من الدم للفلسطينيين لتحلّ مشكلة البؤس والخوف، ورسم حدود الجغرافيا على حدود الاستثمار والأمن الإسرائيليين، ورسم حدود السكان على حدود الغلبة العدديّة للمستوطنين على حساب السكان الأصليّين، والخيار البديل نظرياً هو تهجير أو موت.
فشل الثقافة الأميركية في إيجاد حل للقضية الفلسطينية عبر عنه أكثر مثقفي صحافتها اهتماماً بالملف الفلسطيني توماس فريدمان الذي كتب بالنيابة عن الملك السعودي الراحل عبدالله بن عبد العزيز مبادرته للسلام، والتي صارت المبادرة العربية للسلام، ويشيد بها اليوم أغلب المعترضين على صفقة القرن، لكنّها في العمق تتأسس على الثقافة ذاتها، لكن مع إصرار أقلّ على نزع كامل الأرض والاكتفاء بنزع الضروري لتبديد الخوف، وترك الضروري لتبديد البؤس، لكن كل ذلك بعيداً عن فلسفة الحق.
كتب توماس فريدمان كتاباً في منتصف التسعينيات اسمه «سيارة اللكزس وشجرة الزيتون»، خصصه لشرح ثقافة العولمة، ويقوم على محاولة لترجمة مفهوم نهاية التاريخ الذي بشّر به فرانسيس فوكوياما في كتابه عن الإنسان الأخير، ليصف فريدمان هذا الإنسان بالتوق الجامح لنزع أشجار الزيتون، التي ترمز لخصوصيّة الأمم والشعوب، لحساب التنافس على مَن يمتلك سيارة اللكزس في إشارة لتغلّب السعي على الرفاه على كل التزام بما سُمّي بالقضايا الكبرى والعقائد والهويات، وعندما جاء فريدمان ليكتب عن القضيّة الفلسطينية خان كتابه فقرّر نزع أشجار الزيتون الفلسطينية وعرض استبدالها بسيارة اللكزس، بما يعني دعوتهم لاستبدال هويتهم بالمزيد من الرفاه، مقابل زرع المزيد من أشجار الزيتون في حقول الإسرائيليّين، واعتبر ذلك شرطاً لرفاههم، أي ربط الرفاه بحماية الهوية المدّعاة.
هذه هي أميركا والثقافة الأميركيّة، بصقورها وحمائمها، بمثقفيها وتجار عقاراتها، وواشنطن ليست إلا نسخة أكبر سناً وأكثر غنىً وعدداً من تل أبيب.