الروس قد يحتاجون وقتاً لتسريج خيولهم لكنهم يمتطونها بسرعة مرعبة…
محمد احمد الروسان
تجيء زيارة المبعوث الرئاسي الروسي ميخائيل بوغدانوف الى لبنان، ولقاءاته مع المسؤولين اللبنانيين والقيادات السياسية والحزبية، لا سيما قيادة حزب الله، في سياق خارطة طريق تغيير التوازنات الاستراتيجية وترسيماتها الجديدة في العالم، تبدأ بالضرورة من دمشق وتنتهي بالضرورة في دمشق أيضاً، وهذا قاد ويقود الى وجود مشروع روسي مشترك مع دول «بريكس» اسمه عالم متعدّد الأقطاب، في مواجهة مشروع أميركي ودول أخرى اسمه: الغطرسة والهيمنة الأميركية، عبر حذاء روسي مرفوع بالوجه الأميركي، ان بسبب المسألة السورية، أو بسبب المسألة الأوكرانية، وإنْ بسبب الانحياز الأميركي الصارخ والحادّ للكيان الصهيوني في مواجهة الفلسطينيين والعرب.
وسورية بديكتاتورية جغرافيتها السياسية، وموردها البشري ونسَقها السياسي وجوهره «توليفة» حكمها السياسي، تعدّ بالنسبة إلى الغرب بما فيه الولايات المتحدة الأميركية وعبر حلف «الناتو» الحربي، المدخل الاستراتيجي للسيطرة وبتفوق على المنظومة العسكرية الأممية الجديدة المتشكّلة بفعل المسألة السورية، ولاحتواء الصعود المتفاقم للنفوذ الروسي الأممي، والساعي الى عالم متعدد الأقطاب عبر فعل ومفاعيل الحدث الدمشقي، وصلابة مؤسسات نواة الدولة الفدرالية الروسية ازاء ما يجري في الشام من صراع فيها وعليها وحولها، فالروس يصحون وينامون ويتسامرون على وقع أوتار ما يجري في سورية.
يُقال إنّ الروس غالباً ما يحتاجون وقتاً طويلاً كي يُنجزوا تسريج خيولهم ذات الأصول المختلفة، ولكنهم يمتطونها بسرعة مخيفة ومرعبة، فبعد صبر معالجة الاقتصاد الروسي المنهار واسترجاع عافيته منذ العام 2000 وحتّى الان، بدأ بوتين بمقاومة الطوق الغربي حول بلاده، و في سورية والقرم وأوكرانيا لاقى الغرب هزائم مذلة ووجد نفسه يتلاشى كلما اقترب من هذه المواقع، وفي لعبة الطاقة الخطيرة ستسيطر خطوط الأنابيب الروسية لا الغربية، على الأراضي الآسيوية الأوروبية.
الرئيس فلادمير بوتين وبسبب خلفيته الاستخبارية، يعرف كيف يستخدم قوّة خصمه ضدّ خصمه نفسه، ويعرف بعمق كيف يبحث القتلة السفلة عن فرصة لاحت وتلوح أو ستلوح لاحقاً، لذلك وفي المعلومات قام بطرد منظمات ومؤسسات مجتمع مدني على شاكلة اليو أس ايد والمجلس البريطاني وغيرهما من بلاده، كون مجموع المؤسسات الآنف ذكرها مجرّد واجهات لخدمات سريّة في الداخل الفدرالي الروسي لصالح العاصمة الأميركية واشنطن دي سي والعاصمة البريطانية كذلك، والمؤسسات السابقة وغيرها كثيراً ما يرحب بها العرب في الدواخل العربية رغم علمهم بحقيقتها.
فبوتين يتقن فن الاستخبارات المضادة، حيث الأخيرة لا تعني فقط البحث عن الجواسيس والعملاء والمخبرين وتشكيل الشبكات العنكبوتية بموارد بشرية منهم، بل تعني أيضاً وبشكل معمّق وعملي مواجهة عمل الوكالات المخابراتية الأخرى الغارقة أو التي تجعلها أعمالها غارقة في تدمير المؤسسات الوطنية الخاصة بالدولة من الداخل، وبنفس الوقت يعرف بوتين وخبراء مخابراته الاقتصادية ومخابرات الطاقة الروسية أنّ الاقتصاد الأميركي، هو بالأساس اقتصاد حرب ومعه الاقتصاد الانجليزي ومنذ الحرب العالمية الأولى وحتّى اللحظة، رغم أنّ الاقتصاد الأميركي يحقق نمواً ولكنه نمو بالغ الصعوبة بمكان وزمان مختلفين وكذلك الحال بالنسبة إلى صديقه الحميم الاقتصاد الأنجليزي.
أرادوا توريط روسيّا في حرب مع أوكرانيا من أجل خلق حرب إقليمية أوروبية، فرفض الروس ذلك وبذكاء حاد، وهنا نتساءل هل تتحوّل أوكرانيا ومسألتها الى سبب حقيقي لانفصال أوروبا عن الولايات المتحدة الأميركية؟ بعبارة أخرى هل تصبح الحرب من أجل أوكرانيا حرباً من أجل استقلال القارة الأوروبية عن أميركا وحرباً ضدّ الدولار الأميركي؟
أروقة صنع القرار في العاصمة الأميركية واشنطن دي سي، تسعى الى كسب حروب الولايات المتحدة الأميركية سواءً في سورية أو في أوكرانيا، وفي صراعاتها مع الصين وروسيّا، وفي فنزويلا وجلّ آسيا وفي كوبا وحتّى في تايوان، عبر مخططات هندسة توريط حلفائها وأدواتها، من خلال اجتراح هندسة أنواع جديدة من حروب وغزوات يخوضها الآخرون الأدوات ، بالنيابة عنها وعن المجمّع الصناعي الحربي وبلدربيرغه في الداخل الأميركي، فيما تقوم الولايات المتحدة الأميركية بالجلوس حول موقد نار حروبها، تلتقط الكستناء وبيض الحجل الطازج من بين ما أشعلته آيادي حلفائها وأدواتها وعملائها، بتوجيه وإيعاز من نواة إدارتها جنين الحكومة الأممية ، وعندّ الأزورار بالكستناء والبيض المشوي تحتسي النبيذ المعتّق حتّى لا تموت بازورارها.
أوكرانيا وتفاعلات ومفاعيل أزمتها الراهنة، انْ لجهة الرأسي أو لجهة العرضي، ودور العامل الخارجي في تمفصلاتها وتحوصلاتها، جعلت منها مكسراً ومطحناً لعظام نتاجات الكباش الروسي الأميركي في أكثر من ملف في الشرق الأوسط. الأميركي قدّم تنازلات في الملف الإيراني والسوري وحزب الله والملف العراقي والملف اللبناني، وكان يحتاج الى تغطية لجلّ ما تنازل عنه حتّى لا يُجرح في كبريائه، فذهب الى فتح الملف الأوكراني لتخريب الساحة الروسية وبشكل عميق الآن، وهذا ما أشار اليه الرئيس الروسي في خطابه الأخير قبل أيام، وكما ذهب الأميركي الى إثارة دخّان آخر للتغطية عن تنازلاته في الشرق الأوسط، رغم حاجته الى ستاتيكو في الأخير للتفرّغ لعدوّه القادم روسيّا والصين، والأخيرة تتعملق اقتصاديّاً والاقتصاد الأميركي صار مرهونا الان للاقتصاد الصيني، وبنت بكين جيشاً حديثاً ومتطوراً، والجيش الروسي بقي قويّاً ومتماسكاً والشعور القومي الروسي تنامى وتنامى عبر بوتين وسياساته، ومجتمع المخابرات الروسي توسّع في مجاله الجيوبولتيكي وصارت له أدواته الناعمة، والتي من شأنها أن تقود الى تغيّرات مثيرة في خرائط مجاله الحيوي، وكما هو الحال في تغير البنى السوسيولوجية والاستراتيجية لأوروبا، ان تمادت الأخيرة في تساوقها مع واشنطن، في استهدافاتها للداخل الروسي والخارج الروسي، في مجالاته الحيوية ذات الجزئية الأهم في الأمن القومي الروسي.
فالعاصمة الأميركية واشنطن دي سي، وفي معرض مسارات دعمها لسلطات الانقلاب في كييف، المحفوف بالمخاطر على جلّ استقرار القارة الأوروبية العجوز، فهي تشرعن كلّ أنواع مواجهات هذه السلطات الانقلابية مع المعارضين في شرق أوكرانيا وجنوب شرقها. الكاوبوي الأميركي معروف عنه تاريخيّاً التشدّد والمرونة في السياسات وتنفيذها، حيث هناك في مفاصل الدولة الأميركية، فريق يسعى الى مزيد من التصعيد مع الروسي، في فرض مزيد من عقوبات مشدّدة وتقديم مساعدات عسكرية لسلطات كييف الجديدة الانقلابيون النازيون الفاشست ، وهذا الفريق فريق العصا الأميركية الغليظة، بسببهم صارت أميركا الشرطي الأول في العالم، وفريق آخر يظهر شيئاً من الحكمة والواقعية السياسية والميدانية، وقد يكون الأقدر على فهم متغيّرات الزمن، يسعى وبصعوبة نتيجة الصراع والخلاف مع الفريق الآخر، في جعل الباب مفتوحاً بقدر يسير للغاية للوصول الى تقاربات ثم تفاهمات، للوصول الى الحلّ الدبلوماسي لهذه الأزمة مع الروسي.
حاجة واشنطن إلى موسكو أكبر
هذا الفريق الأميركي فريق الإطفاء الدبلوماسي للنار التي أشعلتها واشنطن عبر حلفائها وأدواتها في الداخل الأوكراني، ممكن وصفه بالتيّار المعتدل أو أنّه يظهر الاعتدال وينادي بالتريّث وتبريد سخونة الأجواء، ويعلن أنّه ليس من الحكمة بمكان حشر روسيّا في الزاوية ورفع سقوف التشنّج معها، وفي ظلّ وجود ملفات مشتركة مهمة على طول وعمق خطوط العلاقات الأميركية الروسية. فتحتاج واشنطن إلى موسكو كثيراً وأكثر من حاجة الثانية للدي سي في الملف السوري، والملف الأفغاني، والملف الباكستاني، والملف الإيراني، وملف كوريا الشمالية، وملف الصراع العربي ـ «الإسرائيلي»، وملف تايوان، وفي ذلك رسالة مشفّرة إلى موسكو، نواة الأخيرة فكّت الشيفرة، وهي لتقديم تنازلات محدودة في ملفات أخرى حتّى في تايوان، وأرسلت الجواب عبر زيارة الرئيس بوتين الى القرم قبل نصف سنة تقريباً وعبر العروض العسكرية في يوم النصر على النازية، وعندما أكّد بوتين في خطابه الأخير أنّ القرم بالنسبة إلى الروس مقدّسة كقدسية المسجد الأقصى بالنسبة إلى المسلمين، وفي ذلك رسالة أيضاً إلى اليمين الأوكراني المتطرف النازي الفاشستي وسلطات انقلابه في كييف.
وبحسب قراءات مجتمع المخابرات والاستخبارات الروسية، أنّه وفي ظلّ الاصطفافات الدولية بسبب الأزمة السورية ونتاجها الطبيعي الأزمة الأوكرانية، تسعى واشنطن وحلفاؤها ودولة الكيان الصهيوني الدولة المسخ «إسرائيل»، إلى تسخين النزاع بين روسيّا واليابان حول جزر كوريل المتنازع عليها بين طوكيو وموسكو، والأخيرة تنسّق مع بكين حول ذلك.
كما أنّ الفدرالية الروسية تعي أنّ فريق الإطفاء الديبلوماسي للنار الأميركية في كييف، لا يعني ولا يشي بأنّ أميركا تقرّ بوجود شريك روسي لها، وأنّ هناك قوّة أخرى صاعدة أعادت إنتاج نفسها من جديد، فصعدت بقوة وثبات وكان الصعود خطوة خطوة وليس صعوداً صاروخيّاً، كون المعادلة الكونية تقول: إنّ من يصعد بشكل صاروخي سريع يسقط بمثل وشكل ما صعد، وهذا ينطبق على الدول وعلى الجماعات وعلى الأفراد النخب السياسية والاقتصادية في المجتمعات والدول.
انّ أيّ نزاع عسكري في أوكرانيا مع الروس من قبل «الناتو» والأميركان سيغيّر هياكل أمن القارة الأوروبية ويقود الى حالة عدم الاستقرار في أوروبا كلّها، خاصة أنّ المعلومات تقول عن تواجد عسكري لـ«الناتو» هذا الأوان في مناطق أوروبا الشرقية، وهذا ما تمّ رصده وأكّده تصريح غير مسبوق لقائد قوّات «الناتو» في شرق أوروبا الجنرال فيليب، والذي سبق أن زار دول الجوار السوري منذ بدء الحدث السوري وفي أكثر من زيارة معلنة وغير معلنة ومنها بلادنا الأردن.
العملية العسكرية الجارية الآن على مناطق شرق وجنوب أوكرانيا من قبل الجيش الأوكراني، جاءت بضوء أخضر أميركي بعد زيارات معلنة وغير معلنة لجون برينان مدير «سي آي اي» ومعه ثلّة من ضبّاط «الموساد الإسرائيلي»، تستهدف في ما تستهدفه حشر الفدرالية الروسية أمام خيارين: الأول الإذعان لهجوم الجيش الأوكراني والتخلي عن الحلفاء، وبالتالي تخسر موسكو كلّ ما حقّقته حتّى اللحظة في أزمة القرم وتعود الى دولة رقم اثنين أو ثلاثة، وحتّى تخسر في ساحتها الأوراسية كمجال حيوي للأمن القومي الروسي، وفي هذه الحالة يكون الغرب قد رسم سقفاً لتنامي القوّة الروسية، وفرض معادلة جديدة ورسم سقفاً لقنوات ومظاهر التعبير عن القوّة الروسية المتصاعدة، وهذا يتطلب حسماً عسكريّاً سريعاً من قبل واشنطن و«الناتو» والحلفاء والأدوات في الداخل الأوكراني.
الخيار الثاني يتموضع في التالي: أن تتورّط روسيّا عسكريّاً لصدّ ومنع هجوم الجيش الأوكراني إذا ظهر تراخٍ من قبل أدوات الدولة الروسية الناعمة في الشرق الأوكراني، وبالتالي قد تتطور الأمور الى حرب إقليمية كبرى يكون «الناتو» ووجهه المدني الاتحاد الأوروبي أحد أطرافها، والهدف هنا هو ضرب الاقتصاد الألماني كأقوى اقتصاديات أوروبا، وهو يعتمد بشكل كلي على الغاز الروسي الطبيعي، كاقتصاد منتج من الدرجة الأولى بنظامه الإداري النوعي والكمّي في نفس الوقت.
تكتيك النفس الطويل
وروسيّا تعتمد تكتيك النفس الطويل، وهذا هو نفسه سيناريو القرم الذي انتهجته موسكو، حيث الجيش الروسي تمترس خلف الحدود وترك الساحة للحلفاء في الداخل القرمي القرم ، مع دعم سياسي ومادي ومعنوي وعسكري وإعلامي، وذات السيناريو سيكون مع مناطق شرق وجنوب أوكرانيا، وفي حال تفاقمت الأمور في الشرق الأوكراني وجنوبه، فإنّنا سنكون أمام قرم آخر ينظم للفدرالية الروسية، وأثرُ ذلك على أوروبا والعالم سيكون وخيماً، حيث تتشجّع الحركات الانفصالية وتطالب بالانفصال، مما يقود الى حالة من عدم استقرار وثبات الدول وحدودها الجغرافية.
نعم انّها لعنة اقليم كوسوفو، هذه اللعنة التي جعلت وزير خارجية النمسا يتهم تركيا بتغذية التطرف في الداخل النمساوي، وإشاراته الاستخباراتية الى أنّ أنقره تسعى الى جعل البوسنة قاعدة عمل تهدّد أوروبا واستقرارها، مما يقود ويجعل جلّ أوروبا تكون مضطرة ومرغمة بعمق للاعتماد بالكامل وبشكل ناجز على تركيا في الكثير من الملفات الأمنية، وهذا من شأنه ان يقود الاتجاه الأمني والاقتصادي في أوروبا، الى صياغات جديدة في العلاقات مع تركيا وإعادة ترتيب معظم الأوراق المختلفة معها.
فبعد زيارة الرئيس فلادمير بوتين الى تركيا ونجاحها في الشق الاقتصادي، يقوم الرئيس الفرنسي هذا الأوان بزيارة مفاجئة وغير مخخط لها الى روسيّا، ويلتقي الرئيس بوتين ومعه مدير مخابراته الخارجية برنارد باجوليه وكوادر ظله الاستخباراتية، مقابل كوادر الظلّ الاستخباراتية الروسية وبعد الزيارة الثانية لوفد روسي الى لبنان، منطقة النفوذ الفرنسية التقليدية واللقاء مع كوادر حزب الله الخصم الفرنسي الأول في الداخل اللبناني.
عنوان الزيارة الفرنسية سيكون حاملة الطائرات البارجة مسترال التي تتلكأ فرنسا بتسليمها لموسكو، في حين المضمون الفعلي للزيارة سيكون الأزمة الأوكرانية ومآلاتها وعقابيلها، واستراتيجيات الغاز الروسي لأوروبا، وزيارة بوتين إلى تركيا وخطوط العلاقات الروسية مع حزب الله، ومحاولات التأثير والنفوذ الروسي في المعادلة اللبنانية الداخلية.
نواة الدولة الروسية القومية والوطنية تدرك، أنّ خيار التصعيد في أوكرانيا هو خيار أميركي «إسرائيلي» صرف وليس أوروبياً بامتياز، لذلك موسكو تمدّ الجسور مع أوروبا وترسل رسائل عدّة، في حين نجد أميركا تدفع أوروبا القارة العجوز للتصعيد مع روسيّا عبر الملف الأوكراني، لتبقى القارة الأوروبية تحت دائرة النفوذ الأميركي ولإبعاد روسيّا عنها، والدولة الأوروبية الوحيدة والتي تحاول حفر قناة مستقله بعيداً عن شقيقاتها الأوروبيات مع الفدرالية الروسية هي: ألمانيا أقوى اقتصاديات الدول الأوروبية وذات العلاقات الأقتصادية ألمانيا تعتمد بشكل كلي على الغاز الروسي والاستخبارية مع موسكو، حيث التعاون المخابراتي المشترك والمتساوق في أكثر من ملف دولي واقليمي وفي الشرق الأوسط، وكيف استطاع بوتين بسبب عمق خبرته بألمانيا ومجتمع مخابراتها أن يجعل خطوط التنسيق الأمني الروسي الألماني اتوستراداً واسعاً حيث القواسم المخابراتية المشتركة والمتعدّدة، وخير مثال على ذلك: التحالف المخابراتي الروسي الألماني مقابل تركيا وأدوارها في آسيا الوسطى والشرق الأوسط وفي الداخل الأوروبي، وهذا ما جعل الاستخبارات التركية ومنذ مدّة تقترب أكثر من الاستخبارات الألمانية.
الغرب وأميركا يستخدمان أوكرانيا كدمية في اللعب الجيوسياسي مع روسيّا، كما يدفعان سلطات كييف الانقلابية لخوض حرب بالوكالة عنهما ضدّ روسيّا وأمنها القومي، تماماً كما يفعلان في الحدث السوري عبر دفع الأتراك وبعض مملكات القلق الخليجي وبعض عرب وزومبياتهم الإرهابية لتدمير الدولة الوطنية السورية. وروسيّا تعتبر أوكرانيا – كييف بسلطاتها الانقلابية الجديدة ودول شرق أوروبا الأخرى، بمثابة القاعدة الأميركية الإسرائيلية المتقدمة في استهداف موسكو من جهة، كما تؤمّن وتحفظ هذه القاعدة الأميركية «الإسرائيلية» سيطرة واشنطن على الموارد النفطية الموجودة في منطقة بحر قزوين وآسيا الوسطى، هذا وقد رأى العالم كلّه المناورات العسكرية الروسية المفاجئة الحالية بالقرب من أوكرانيا وفي أكثر من منطقة، لاختبار القدرات القتالية لبعض الطائرات الروسية الحديثة.
القلق أميركي من قدرات روسيا
انّ ما يقلق العاصمة الأميركية واشنطن دي سي، هو قدرة وإمكانيات روسيّا الكبيرة، في توفير خيارات استراتيجية بديلة على مجمل قطاعات المجتمع الدولي وقطاعات المجتمعات العربية ومشاكلها مع الآخر، وهذا من شأنه كما يتحدث معظم الخبراء أن يضعف الدور الأميركي على العالم وفي الشرق الأوسط، بعبارة أخرى وكما أحسب وأعتقد، أن يضعف ويقلّل من الدور الرعوي الديكتاتوري المغلّف بغلاف الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان والحاكمية الرشيدة، لواشنطن على العالم وقلبه الشرق الأوسط، وقلب الأخير سورية بنسَقها السياسي ودكتاتورية جغرافيتها. وهذا القدر الروسي المتصاعد من شأنه أيضاً من الزاوية الأميركية، أن يدفع الكثير من الدول والساحات وخاصةً في العالم العربي الى العلاقات القوية والمتينة مع موسكو، وعلى قاعدة التنويع في العلاقات الدولية المتوازنة واللقاء الروسي العربي الثاني وفي الخرطوم هذه المرة يجيء في سياقات هذه السياسات الروسية إزاء ضرورة صوغ علاقات استراتيجية جديدة مع العالم العربي.
وما يقلق الأميركان كذلك، أي تحالف ألماني روسي، فواشنطن وكما ذكرنا تسعى الى إبعاد أوروبا مجتمعةً عن روسيّا والعكس أيضاً وبأي طريقة، ولهذا الموقف الأميركي أبعاد استراتيجية مركبة، فنلحظ ونرى ونلمس دفعاً أميركيّاً لألمانيا للتورّط في الحدث الأوكراني سياسيّاً واقتصادياً وأمنياً وعسكرياً، رغم مقاومة ألمانيا لهذا الدفع الأميركي الجنوني، واجتراحها وحفرها قناة مستقلة مع موسكو بعيداً عن شقيقاتها الأوروبيات. والذي يثير مخاوف الولايات المتحدة الأميركية من الفدرالية الروسية، ترجمات موسكو لصعودها العالمي من جديد عبر تشكيل روسيّا لتكتل عالمي مع بكين والهند والبرازيل وجنوب أفريقيا عبر إنشاء مجموعة «بريكس»، وأظهر هذا التجمّع الدولي والتكتل فاعليته من خلال ثلاث مرات استخدام للفيتو الصيني الروسي المزدوج في المسألة السورية، وهي أكبر أزمة تحدث ما بعد انتهاء الحرب الباردة والآن الأزمة الأوكرانية بعقابيلها المختلفة.
نعم موسكو وبالتحالف مع ايران والصين وباقي دول «بريكس»، قاموا بمنع المحور الأميركي الأوروبي التركي الخليجي وبعض عرب من تحقيق أجنداته عبر الصراع السوري، والأخير تحوّل الى ساحات مكثفة للمجابهات الدولية الأقليمية وعبر حطب سوري متعدد، والأزمة الأوكرانية هي نتاج طبيعي لحالات الكباش الروسي الأميركي المتصاعد والحادّ والعرضي في المسألة السورية. انّ روسيّا الصاعدة وذات الشعور القومي المتصاعد وبزعامة الزعيم فلادمير بوتين، تنال الدعم المطلق من قاعدة اجتماعية روسية واسعة، حيث القوميون الروس والشيوعيون والكنيسة الأرثوذوكسية في كتلة واحدة داعمة ومؤيدة له وكحاضنة شعبوية ودينية وسياسية، حيث استطاع الرئيس الروسي بوتين أن يعيد بناء النزعة القومية الروسية والمدعّمة والمدرّعة بنزعة سلافية تشجعها وتدعمها الكنيسة الدينية الأرثوذكسية، حيث انفتاح بوتين على الأخيرة واستدعاؤه للروح القومية الروسية في مواجهة الغطرسة الأميركية، ومواجهة هذا الجنون المرتبك نتيجةً لمتاهات العاصمة الأميركية واشنطن دي سي. فصار الروس أكثر توقاً وشوقاً في السعي الى تأسيس لبُنات نظام عالمي جديد متعدّد الأقطاب، يولد من رحم الأزمات عبر ما وفّره ويوفّره الحدث السوري والحدث الأوكراني، والأخير وكما ذكرنا ونذكر نتاج طبيعي لحالة الكباش الروسي الأميركي الحادّ في سورية، بل أنّ شكل العالم الحديث بدأ تشكيله وتشكله من سورية، والأزمة الأوكرانية ما هي الاّ داعم آخر على طريق التعدّدية القطبية.
محام، عضو المكتب السياسي للحركة الشعبية الأردنية