تأثير الدين العام والتدابير المصرفية على القطاع الزراعي في لبنان*
} ميشال عقل**
لن يكون لنا أن نضع يدنا على الجرح، إن لم نعرف أين الجرح، وما مسبباته، كي يتسنى لنا أن نكون عند المستوى المطروح والمطلوب.
تأثير الدين العام والتدابير المصرفية على القطاع الزراعي في لبنان… نعم هذه هي الكلمة.
تتجلى المشكلة الاقتصادية الرئيسية في لبنان اليوم عند سبل زيادة واردات الخزينة وخفض النفقات العامة وعجز الموازنة وحجم الدين العام الإجمالي.
وكانت السياسة الاقتصادية خلال السنوات العشر الماضية تميّزت بإهمال القطاعات الإنتاجية، وعدم تحديث الاتفاقات التجارية، فتراجعت التوظيفات الاستثمارية المنتجة للسلع والخدمات لمصلحة تقديم الفوائد.
ولم يستفد الإنتاج من التسليفات المصرفية للقطاع الخاص، فدخل أصحاب الرساميل في اقتصاد ريعي عـوض اقتصاد الاستثمـار والإنتاج، ما كان من أهمّ أسباب الانكماش وتراجع السيولة في حركة التبادل.
ولأنّ الإنفاق الحكومي اعتمد على الاستيراد والعمالة الأجنبية، ارتفعت المديونية بسبب تمويل الإنفاق الجاري عبر الاستدانة، ففاقت أعباء التسديد المداخيل الناجمة عن الإنفاق، وتعاظمت حصة الدين العام في الناتج المحلي، وتخطت نسبة ارتفاع الدين نسبة النمو الاقتصادي. على ضوء ذلك، لم يستطع الاقتصاد تحقيق النمو المستديم، ولم يتطوّر حجـم الاقتصاد الحقيقي في موازاة الإنفاق الكثيف والاستدانة المتزايدة.
واقع الدين العام الرقمي بلغ 85.14 مليار دولار أميركي قائماً (أيّ من دون اقتطاع ودائع القطاع العام منه) في نهاية 2018.
إذاً نحن أمام دين يمثل نحو 170 في المئة من الناتج المحلي القائم، ويشكل عبئاً كبيراً على الاقتصاد الوطني في شكل عام وعلى القطاع الزراعي بشكل خاص. وهو عبء ثقيل وضاغط على الموازنة العامة بحيث يزيد من العجز ويوسع بند خدمة الدين في النفقات العامة، ما يقود الحكومة إلى زيادة الرسوم والضرائب للتخفيف من عبء هذا العجز.
وقياساً على احتساب الدين العام إلى الناتج المحلي، يشكل هذا الدين نحو 33 ضعفاً الناتج المحلي الزراعي ولذا فضغط العبء سيكون أكثر على الزراعة والقطاع الزراعي والمزارعين والذين يعملون في مجال الخدمات الزراعية من تصنيع زراعي أو تجارة للمستلزمات الزراعية وأدواتها.
يساهم القطاع الزراعي بنسبة تراوح بين 4 و5 في المئة من الناتج القائم بحسب نجاح المواسم والقدرة على تسويق الإنتاج وتصديره، وهو شكّل في الأعوام الثلاثة الماضية نسبة 4.5 في المئة وسطياً ولامس عتبة 2.5 مليار دولار أميركي، ولم يلقَ من الحكومة الاهتمام الكافي بدليل أنّ موازنة وزارة الزراعة دون واحد في المئة من إجمالي أرقام الموازنة العامة.
ومن تأثير الدين العام على القطاع الزراعي، أنه يلجم تطوّر بند الموازنة المخصصة للزراعة. فالموازنة العامة تشكل نسبة 43 في المئة من الناتج المحلي. ولو أمكن الحفاظ على هذه النسبة قياساً إلى الناتج المحلي الزراعي لوجب تخصيص 700 مليون دولار أميركي للزراعة أيّ نحو 10 في المئة من حجم الموازنة العامة، أو في أدنى قياس خمسةً في المئة إذا أخذت في الاعتبار خدمة الدين العام. وإزاء سؤالنا: لماذا لا يتمّ تخصيص قطاع الزراعة بموازنة تتلاءم وحجم أعماله ومساهمته في الناتج المحلي؟ يأتي الجواب في عبء خدمة الدين التي لا يمكن إطفاؤها بالفائض الأوّلي من الموازنة العامة بل بالرجوع إلى السوق للاقتراض لتغطية المستحقات من أصول وفوائد.
ولما كانت خدمة الدين العام تستهلك معظم الواردات المالية المحققة في الموازنة، وتحتاج إلى المصارف للاكتتاب في سندات خزينة يتمّ تحويل عائداتها لتسديد مستحقات الدين العام، وجدت المصارف في ضمانات الدولة لها وفي الفوائد المرتفعة والريعية على سندات الخزينة، ملاذاً مالياً لها بحيث خصّت إجمالي ودائعها المالية للاكتتاب في سندات الخزينة وحرمت القطاعات الاقتصادية من فائدتها.
وإذ بلغت التسليفات المصرفية إلى القطاعات الاقتصادية نحو مئة ألف مليار ليرة لبنانية نهاية حزيران 2019/ فإنّ القطاع الزراعي لم يحصل على أكثر من 1،25 في المئة من حجم تلك التسليفات. وإذا اعتبرنا أنّ هيكلية القطاع الزراعي القانونية ليست كاملةً ومتكاملةً، نفهم لماذا تتوجه تسليفات المصارف إلى القطاعات الأكثر ضماناً فتستأثر التسليفات إلى الأشخاص مثلاً بنسبة 31 في المئة ما يوازي تقريباً 3 أضعاف التسليفات إلى القطاعين الزراعي والصناعي.
ومردّ الإهمال المتمادي في تنمية القطاع الزراعي، قد يُعزى إلى زيادة عبء الدين العام فتعجز الدولة عن كفالة القروض لهذا القطاع وعن تأمين قروض ميسّرة له، وما تأمّن في هذا المجال لم يصبّ في محله الأساسي لأنه يخضع للمتطلبات السياسية والمنفعة الشخصية أكثر مما يصبّ في خانة القطاع في شكل عام.
هكذا نخلص إلى أنّ اكتتاب المصارف في سندات الخزينة وفي شهادات الإيداع بفائدة مرتفعة يحرم القطاع الزراعي من القروض الميسّرة. واهتمام الدولة بكيفية سداد الدين العام وتأمين الموارد المالية يحول دون اهتمامها الجذري بقطاع الزراعة وتنظيمه، لذا اكتفت بتقديم الدعم المالي، وهو يصبّ غالباً في غير محله، دون اهتمامهـا بإنهاض القطاع بما يتلاءم وحاجات العولمة فيصير قطاعاً ذا قدرة تنافسية عالمية وقطاعاً عارفاً وباحثاً عن زراعة تحتاج إلى إنتاجها الأسواق العالمية. لكن اهتمام الدولة بالشأن المالي العام لم يتح نمواً اقتصادياً حقيقياً بعد.
وعلى صعيد الاقتصاد الحقيقي، القطاع الوحيد الذي نما هو القطاع السياحي بينما عانت باقي القطاعات الخدمية بسبب ركود الطلب الخاص. وكذلك أظهرت مؤشرات عدة أنّ قطاع الزراعة يعاني من مشكلات عدة لا تزال تحول دون نموّه.
هل من دور للزراعة في لبنان؟
ولا بدّ هنا من الإجابة عن أسئلة جوهرية عن الوضع الزراعي في لبنان.
السؤال الأول: هل من دور للزراعة في لبنان؟ ثمة من يشكك في أهمية القطاع الزراعي ويقول إنه في نمط النمو الاقتصادي في لبنان، والزراعة تخطاها الزمن وأصبح القطاع الزراعي قطاعاً متخلّفاً لا يمكنه اللحاق بالقطاعات الأخرى، كالخدمات والصناعة والسياحة والبنوك والتأمين إلخ… وهذا طبعاً منطق مرفوض لاعتبارات عدة أهمها:
أولاً: لا يمكن تبرير التخلف والتقصير بحق القطاع الزراعي بمزيد من الإهمال وعدم الاكتراث. بل يجب أن يكون هذا التقصير حافزاً قوياً بتفعيل الدولة هذا القطاع الزراعي لإنماء اقتصادي متوازن، لأنّ الزراعة مورد رئيس للدخل، بل المورد الوحيد للريف اللبناني في بعض المناطق الريفية المحرومة في لبنان. ومن ضرورات تطبيق وثيقة الوفاق الوطني التطبيق الصحيح والسليم والعادل للإنماء المتوازن، ولا يجوز إهمال القطاع الزراعي.
ثانياً: الدخل الزراعي في لبنان يتمّم العاملين في القطاعات الأخرى كالتجارة والصناعة والسياحة والخدمات، وبالتالي فأيّ إهمال للزراعة يؤدي الى انخفاض في الدخل القومي ككلّ. ولن يكون التصنيع الزراعي ممكناً دون تشجيع الزراعة في شقيها النباتي والحيواني.
ثالثاً: رغم تقهقر هذا القطاع، ما زالت الزراعة مورداً رئيساً للصادرات اللبنانية وتأمين العملات الصعبة وتحسين ميزان المدفوعات والميزان التجاري.
السؤال الثاني: إذا كان الحال في لبنان عبر الفرضيات أعلاه، يجب أن نهتمّ بالزراعة، وقبل وضعنا الخطط والبرامج لتطوير هذا القطاع، يجب أن نتعرّف إلى واقع هذا القطاع الذي، بعد اثنين وثلاثين سنة من الحرب في لبنان يجابه مشاكل عدة أهمّها:
أولاً: انحسار الأسواق أمام الإنتاج الزراعي اللبناني المصدّر.
ثانياً: السياسة المتبعة في دعم القطاع الزراعي اللبناني.
ثالثاً: الوضع المؤسّسي للزراعة اللبنانية.
رابعاً: وضع التسليف الزراعي المؤسسي المأساوي: فالحكومة ألغت مصرف التسليف الزراعي، المنشأ منذ سنة 1954 برأسمال مشترك من القطاع العام والقطاع الخاص، ولم تتمكن من تمويل المصرف الذي أنشأته ووافق عليه المجلس النيابي سنة 1994 الذي كان وافق كذلك على مصرف الإنماء الزراعي سنة 1977. والمؤسف اليوم أن ليس في لبنان مصرف مؤسّسي للتسليف الزراعي، والقطاع المصرفي التجاري في لبنان لا يسلف الزراعة بأكثر من 1،25 في المائة حتى نهاية عام 2018 وفقاً لإحصاءات جمعية المصارف اللبنانية والبنك المركزي.
وفي الإحصاءات المعلنة، أنّ قيمة مستوردات المستلزمات الزراعية (أسمدة، أدوية، بذور وغيرها)، بلغت ما يقارب مئة وأربعون مليون دولار أميركي سنوياً تقريباً.
اليوم، الزراعة تواجه تحدياً مصيرياً يتعلق بحرمانها من استيراد هذه المستلزمات، التي تشكل العنصر الأساسي للإنتاج. فمن دون المواد الزراعية، لا دورة إنتاج، ولا سلع، ما يعني توقف دورة الانتاج وإقفال عشرات المؤسسات الزراعية وتسريح مئات الموظفين ومهندسين زراعيين تعمل لديها وإبقاء الأرض قاحلة دون زراعة.
هذا المشهد يدفعنا إلى القول إنّ حرمان المؤسسات الزراعية من استيراد مستلزمات الإنتاج الزراعي، جريمة موصوفة بحق قطاعنا الزراعي واقتصادنا الوطني وأهلنا المزارعين ومجتمعنا.
نطالب مصرف لبنان، كما وضع آليات مناسبة لفتح اعتمادات لاستيراد الدواء والبنزين والقمح وكذلك المواد الأولية لصناعة الدواء أن يقوم بالأمر نفسه للقطاع الزراعي، الذي لا يقلّ أهمية عن هذه القطاعات على كلّ المستويات. ونناشد المسؤولين والمعنيين اتخاذ الإجراءات اللازمة فوراً لتأمين التحويلات لاستيراد المستلزمات الزراعية، وإقرار تسهيلات مالية وتأمين السيولة تسمح للمؤسسات الزراعية بتأمين فرص العمل للعاملين فيها والعودة إلى النهوض بالقطاع الزراعي من جديد.
نحن في القطاع الخاص، من شركات تتعاطى الشأن الزراعي، نؤكد أنّ عملنا في جمعية مستوردي وتجار مستلزمات الإنتاج الزراعي في لبنان مرتبط بالمزارعين وجميع العاملين في القطاع الزراعي، ودورنا في الجمعية يشكل قوة متينة داخل النشاط الذي يؤمّن غذاء الناس ألا وهو الزراعة. فنحن لسنا الزراعة وحسب، بل نحن مستواها والفرق كبير.
بدوننا تبقى الزراعة كما كانت أيام الثور والمعول، عهد كان الثور والمعول أهمّ من الأرض والمزارع.
من هذا المنطلق، ترقى جمعيتنا في نشاطها أبداً، نظراً للمسؤولية المزدوجة التي تقع على عاتقها، والتي تفرض حكماً تأمين المستوى والتغذية في آن.
وأخيراً، مشكلتنا الكبرى اليوم هي مشكلة الدين. ودور الدولة بات محورياً في رسم المصير الاقتصادي للقطاع الزراعي، في شتى تفرّعاته وتشعّباته، كما الحال في مختلف الدول العربية. وهكذا فمسألة التوازن بين النمو والدين من جهة، وبين العديد من القطاعات والفئات من جهة أخرى، باتت ملحة وفعلية. والمشكلة الأساسية باتت مشكلة مفاهيم لا مشكلة أرقام وحجم دين عام. لذا يقتضي الخروج من الدين العام بخفض العجز وتحفيز النمو واستبدال اقتصاد الريع والاستدانة والاستيراد إلى اقتصاد الإنتاج والتصدير وإدارة الشأنين المالي والاقتصادي بتوجه جديد يتلاءم ومتغيّرات كثيرةً محليةً وإقليمية ودولية.
فالمطلوب إذاً إيجاد مؤسّسات تضمن الحياة الكريمة للإنسان فيبقى في أرضه، وبضمان الحياة الكريمة، تتمّ ضمانة الوطن وشعبه وطوائفه، ومهما كان الشخص قادراً على ضمـان الوطـن والمواطنيـن والطائفـة فإنه زائل، لكن المؤسسات هي الباقية.
ختاماً… عسى أن نتمكّن من السير قدُماً على الطريق التي رسمنا، بلوغاً إلى خطة ينتهجها المسؤولون عن الزراعة في لبنان كي يفيد منها لبنان.
*كلمة ألقيت في مؤتمر صحافي عقد في نقابة محرري الصحافة اللبنانية الأربعاء في 5 شباط الحالي، بحضور مدير عام وزارة الزراعة المهندس لويس لحود ونقيب المحررين جوزف القصيفي وعدد من أعضاء مجلس النقابة والصحافيين ومندوبي وسائل الإعلام.
**رئيس جمعية مستوردي وتجار مستلزمات الانتاج الزراعي في لبنان ورئيس اللجنة الزراعية في غرفة التجارة الدولية – فرع لبنان