القطاع العام… بين الخصخصة والمأسسة

د. لمياء عاصي

أحد الملفات الهامة والشائكة التي تواجه التنمية والنهوض الاقتصادي في سورية، هو القطاع العام أو المؤسسات والشركات المملوكة للدولة، بسبب ما تحققه من خسائر كبيرة وعدم القدرة على تطوير نفسها أو منتجاتها أو وسائل الإنتاج فيها، وقد حصل توسّع كبير في الاستثمار الحكومي في القطاع العام الصناعي والتجاري في السبعينات من القرن الماضي، في محاولة لزيادة حضور الدولة في الاقتصاد كجزء من المشهد السياسي الذي تصدّره حزب البعث العربي الاشتراكي، لسنوات من دون منافس.

تمكن القطاع العام بمؤسساته وشركاته الكثيرة، من تقديم الكثير من فرص العمل التي ساعدت على الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي في العقود الأخيرة من القرن الماضي، إلا أنه تحوّل إلى مشكلة وعبء على موازنة الدولة، وبدأ يدور في حلقة مفرغة من الخسائر وعدم القدرة على المنافسة، وقد تمّ تشخيص الأسباب المعلنة والخفية لخسائر القطاع العام، ومعظمها ناجم عن القيود البيروقراطية والتعيين السياسي للإدارات العليا في هذا القطاع، حيث معيار التعيين الولاءات الشخصية وليس الكفاءة والجدارة، وبغضّ النظر عن أسباب الفشل الذي يعانيه القطاع العام، فقد تشكل شبه إجماع على ضرورة حل مشاكله، وفي هذا الإطار اتجهت الكثير من الدول إلى الخصخصة privatization ، أو المأسسة corporatization .

تعرف الخصخصة بأنها نقل ملكية أصول المؤسسات والشركات من الدولة إلى القطاع الخاص، وعرفت طرق كثيرة تنفذ بأشكال وأطر قانونية مختلفة، أكثرها شيوعاً، بيع الممتلكات العامة بكل أصولها والتزاماتها للمستثمرين مباشرة، كما حصل في روسيا ومصر ودول أوروبا الشرقية التي خاضت غمار عملية إصلاح اقتصادي، وسعت لتحويل اقتصادها من النظام الاشتراكي إلى الليبرالي الحر، واتخذت الخصخصة أشكالاً كثيرة أخرى، أهمّها عقود إيجار أو استثمار للمؤسسات العامة لفترات طويلة، أو عقود فصل الإدارة عن الملكية وتولي إدارة المؤسسات من قبل قطاع خاص بينما تبقى الملكية للدولة، بينما اعتبرت المأسسة أو الــCorporatization كطريقة يُعاد فيها تنظيم تلك المؤسسات لتصبح كياناً قانونياً يعمل بطريقة الشركات، وميزتها الأساسية أنها ترفع كفاءة المؤسسات العامة وسرعة استجابتها لمتغيّرات السوق وتبقي ملكية الأصول للدولة.

وفي العالم اشتهرت العديد من التجارب في عمليات التحول والإصلاح الاقتصادي، منها التجربة الماليزية، حيث قامت ماليزيا بإنشاء شركة كذراع استثمارية للحكومة، من خلال بصندوق سيادي اسمتها «خزانة»، ولعبت هذه الشركة دوراً كبيراً في خصخصة القطاع العام، بأن تقوم بشراء الشركة العامة، وإعادة تأهيلها وتنفيذ كل الخطوات اللازمة… لإعادتها إلى حالة تحقيق الأرباح من تجديد لخطوط الإنتاج وتأهيل للعاملين فيها وتغيير الإدارات العليا، بعد أن تحقق هذه الشركات الأرباح لثلاث سنوات، يتم إدراجها في سوق الأوراق المالية تمهيداً لبيع جزء من أسهمها وبشكل تدريجي للماليزيين، وتحتفظ شركة خزانة بنسبة من ملكية المؤسسات العامة حسب ظروف كل مؤسسة وسياسة خزانة تجاهها، وآخر ما قامت به شركة خزانة هو إجراءات لإعادة هيكلة شركة الطيران الماليزية تمهيداً لبيع جزء كبير من أسهمها في سوق الأوراق المالية، بسبب الخسائر الكبيرة التي منيت بها الشركة على مدى سنوات وخصوصاً الحادثتين المأسويتين اللتين حصلتا عام 2014.

التجربة الإيرانية في الخصخصة، اعتمدت على توزيع أسهم الشركات العامة بنسب مختلفة قسم منها للعمال وقسم آخر للأسر الفقيرة، وقسم يعرض للبيع على المستثمرين من القطاع الخاص. وعلى رغم المصاعب، مضت قدماً في خصخصة شركاتها العامة، وقامت بإصدار القوانين الخاصة وإنشاء مؤسسة تعنى بالخصخصة. فييتنام قامت بعملية خصخصة تدريجية لممتلكات الدولة خلال سنوات طويلة، آخرها كان خصخصة شركة الطيران الخاصة بالدولة.

يعتبر البعض الخصخصة، بأنها خطوة أساسية لتحقيق التنمية من خلال رفع كفاءة الاقتصاد الوطني، من خلال التخلص من خسائر القطاع العام، وإرساء نظام صحيح قائم على المنافسة بين اللاعبين المختلفين في الاقتصاد الوطني، والقدرة على تبني معايير الجودة العالمية واستثمار طاقات القطاع الخاص الذي يقوم على المواهب والقدرات الفردية، وإمكانية وسرعة الاستجابة لمتغيرات السوق وتغيراتها، بينما يركز المناهضون للخصخصة انتقاداتهم على عمليات الفساد التي ترافق صفقات البيع للمنشآت العامة، والتخلي عن ملكية القطاع العام الذي يمثل عموم الناس ومصالحهم لمصلحة القطاع الخاص الذي يسعى إلى مصالحه الخاصة القائمة على تحقيق الأرباح في شكل رئيسي، إضافة إلى المصير المجهول للعمال الذين تمّ تسريحهم والآثار الاجتماعية المترتبة على ذلك.

في سورية يوجد قطاع عام كبير، حوالى 252 مؤسسة وشركة، معظمها خاسرة ما عدا شركات قليلة مثل الاتصالات والبترول والتبغ وغيرها. وقد كشف تقرير أصدره الجهاز المركزي للرقابة المالية عن الوضع المالي للشركات المملوكة للدولة أنّ خسائرها بلغت تريليون و778 ملياراً و151 مليون ليرة سورية، خلال خمس سنوات مالية من 2007 – 2011، على رغم المؤتمرات واللجان التي تم تشكيلها لاقتراح الحلول المثلى للقطاع العام، مثل لجنة الــ18 ولجنة الــ35 وغيرها في بدايات الألفية الثالثة لإصلاح القطاع العام في سورية، والدراسات والتوصيات الناتجة منها، بقيت المؤسسات العامة محكومة بالقانون رقم 2 لعام 2005 قانون المؤسسات ، ومجموعة كبيرة من بلاغات رئاسة مجلس الوزراء، مما أدّى إلى حالة من الغرق في البيروقراطية فاقمت مشاكلها، ومع أن الحكومة قامت ببعض الإجراءات التي يمكن إدراجها في إطار الخصخصة لعدد محدود من الشركات وأعطتها إلى مستثمرين من القطاع الخاص مثل معمل الورق، ولكن ذلك لم يتمّ إقراره كنهج عام وإنما تمّ التعامل معه كحالات خاصة، أما بالنسبة إلى الإطار القانوني… فقد حدد قانون الشركات لعام 2011 في المادة 216 آلية تحوّل الشركات العامة المملوكة للدولة إلى شركة مساهمة تملك الدولة أسهمها، حيث تستطيع بعد تحقيق أرباح لثلاث سنوات أن تدرج نفسها في البورصة. صحيح أنه بسبب الأزمة وعدم رفع الوعي لإدارات الشركات العامة، حول أهمية المأسسة… لم يحصل تنفيذ للمادة 216 لأي شركة عامة، ولكنها على أي حال… تبقى مدخلاً قانونياً موجوداً لمأسسة الشركات العامة وليس خصخصتها.

أخيراً، لا بدّ من القول، أنّ الإجراءات المختلفة لإصلاح القطاع العام، سواء الخصخصة السيئة السمعة، أو المأسسة الصعبة الإجراءات، وما يمكن أن يكتنفهما من مشاكل… تبقى أقلّ كلفة من ترك الوضع معلقاً من دون حلول حقيقية، بشرط أن تأخذ في الاعتبار، وضع العمال وأن لا يكونوا الخاسر الأساسي.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى