سلطة عاجزة وحاكم فوق القانون
بشارة مرهج
طيلة الفترة الماضية لم يتعب حاكم مصرف لبنان ومعه جمعية المصارف من الزعم بأن القطاع المصرفيّ، درّة الاقتصاد اللبناني، هو متين ومليء ومنيع ويتقدم سائر القطاعات في لبنان، وأن أسباب قوته تُعزى إلى الآتي:
أولاً: التزامه المعايير الدولية في نسبة السيولة المطلوبة من المصارف.
ثانياً: امتثاله للقوانين والاتفاقيات الدولية وفي طليعتها اتفاقية بازل 3.
ثالثاً: اعتماد التقنيّات الحديثة وامتلاك وسائل رصد المخاطر وممارسة الرقابة الذاتية والخضوع لرقابة مصرف لبنان عبر لجنة الرقابة على المصارف.
وكانت مواقف الحاكم طيلة الفترة الماضية تترافق مع تصريحات مصرفيين وسياسيين وإعلاميين تبالغ في الإشادة بريادة القطاع المصرفي كما بحصافة الحاكم وسهره على سلامة النقد اللبناني مبينة بدقة وزهو انهمار الجوائز والتنويهات عليه، لبنانياً وخارجياً، حتى أصبحت صورته وهو يدقّ جرس البورصة في نيويورك بمثابة أيقونة يتوقف عندها القوم بخشوع وتقدير.
وعلى خلفية هذه الصورة البراقة التي “تكوّنت” مع الأيام أضحى نقد الحاكم مرفوضاً لا بل محرّماً “لأنه يطعن الاقتصاد الوطني في الصميم”، لا سيما وقد استقر في المخيلة اللبنانية اعتقاد ملتبس باستحالة إقالته من منصبه بعد أن منحه القانون حصانة لا تتوفر لغيره من كبار الموظفين.
وفي ظل هذا المناخ المفتعَل مارس الحاكم سلطته في احتفالية إعلامية مستمرة بلغت أوجها في إعلانه أكثر من مرة أن لا إفلاس لأي مصرف في لبنان حتى ظنّ اللبنانيون والمودعون كافة، بناء على الثقة التي ولدّها الإعلام في الحاكم، أن الوضع المصرفي سليم ومضمون مهما جرى من أحاديث، ومهما كتب من كلمات حول المحاباة والطموحات الانتخابية والتوظيفات السياسية والهندسات المالية وإلى ما هنالك من حقائق مُرة برزت طلائعها في عام 2015 ثم في أثناء البحث في موازنة العام 2019.
لكن النتيجة الأخطر لمجاهرة الحاكم بسياسته التطمينية ظهرت في القطاع المصرفي، وخاصة لدى أصحاب المصارف وكبار المساهمين الذين شعروا بتميّز لا سابق له تجاه الآخر، كما تجاه القانون. الأمر الذي شجع بعضهم على المغامرة والمضاربة في ميادين التوظيف والتسليف تحدوهم الرغبة في تحقيق أرباح استثنائية تزيد من ثرواتهم الطائلة، خاصة أن الأرباح إذا حصلت هي لهم وحدهم، وأن الخسائر إذا حصلت ثمة من يعوّض عنها سواء بالدمج المصرفي أو بالهندسات المالية. وعندما كان أحدهم يهرع الى الحاكم سعياً وراء هندسات مصرفية مجانية تغطي سوء إدارته كان آخرون يحذون حذوه فيضطر الحاكم إلى التجاوب معهم وتكبيد المال العام خسارات لا تصدّق حدّدها الخبراء بحدود عشرة مليارات دولار ذهبت في اتجاهات ثلاثة:
تعويض خسائر مسؤول عنها أصحابها وليس أي طرف آخر.
جيوب أصحاب المصارف وكبار المساهمين والوسطاء.
رسملة بعض المصارف التي تحترم نفسها ومهنتها.
وبهذا الأسلوب الذي اتبعه الحاكم بغياب رقابة الحكومة ومجلس النواب والمجلس المركزي أصبحت المصارف فوق القانون وفوق أي مساءلة قانونية لا تخشى من الإفلاس ولا من غيره مما شجع البعض على التصرف بودائع الناس (وهي أمانات) كما يحلو لهم دون وازع أو ضمير. ومما زاد الطين بلة، بعد انكشاف الوضع عملياً، التوجيه العام الذي رشح باتجاه حفظ الدعاوى المتعلقة بحقوق المودعين مما فاقم من مشاعر القوة والاستعلاء لدى مصرفيين وانتهازيين ودفعهم إلى إذلال الناس والتنصل من تعهداتهم.
وعندما بلغ الاحتقان ذروته وتناقل النواب المعلومات حول الهدايا المصرفية المجانية بادر كل من النائبين حسن فضل الله وجورج عدوان إلى إثارة موضوع الهندسات المالية فتفاءل كثيرون بصحوة داخل المؤسسة التشريعية تصحح الوضع أو على الأقل تنقذ ما يمكن إنقاذه.
وبدلاً من أن يسعى المجلس إلى الاستفادة من تصريحات النائبين والضغط على الحكومة والحاكم للحفاظ على الاحتياطي وإلزام المصارف بتقديم حصص وأسهم مقابل الهندسات المعروفة آثر المجلس إرجاء الأمر فكان ما كان مما سيتناقله اللبنانيون من جيل الى جيل.
وبعد كل ما جرى من استهانة بالمال العام ومال المودعين، وبعد كل ما جرى من سحوبات وتحويلات غير مشروعة من قبل أصحاب المصارف وتحت عين الحاكم يعود سعادته إلى طلب صلاحيات استثنائية تمكّنه من السيطرة التامة على المال العام والخاص دونما حسيب أو رقيب.
إن الاستجابة لطلب الحاكم منحه صلاحيات استثنائية بموجب قانون مسألة في غاية الخطورة، بعد أن فقد صدقيته على أعتاب التردد والوعود الفارغة، وبعد أن تأكد الرأي العام من حدوث مخالفات جسيمة تحدث مسؤولون كبار عن جانب منها.
إن مجلس الوزراء يخطئ خطأ مميتاً اذا تبنى مشروع الحاكم في وقت يقتضي على الحكومة نفسها أن تمارس هذه الصلاحيات فتكون مسؤولة أمام الجمهور الثائر والرأي العام عن كل خطوة تتخذ في الميدان المالي او النقدي. فقد شبع الناس من تقاذف التهم والمسؤوليات وباتوا يريدون جهة واحدة مسؤولة دستورياً عن اتخاذ القرار النهائي ليتمكنوا من محاسبتها.