اختلاط المفاهيم
} عبد الحميد فاخوري
بعد صفقة القرن التي أعلنها الرئيس الأميركي جرت مظاهرات، بعضها عنيف، وصدرت بيانات بالعشرات إن لم يكن بالمئات ترفض هذه الصفقة كما جرى عقد الندوات وأُلقيت الخطابات النارية وعُقدت اجتماعات للدول العربية كما الدول الإسلامية تصدّرها بعض القيادات الفلسطينية وعلى رأسها طبعاً رأس السلطة محمود عباس. وكما قرأتُ في الصحف فإنّ عباس سيقوم بجولة تنتهي بحضوره اجتماع مجلس الأمن وربما الهيئة العامة للأمم المتحدة يجري فيها التصويت على مشروع قرار، أقصى ما يمكن أن يقول بأنّ هذه الصفقة تُعتبر خرقاً لكلّ القرارات والمواثيق الدولية.
وماذا بعد؟ كلّ ما سبق من جهد جيد ولكنه غير كافٍ ما دام أهل القضية أيّ العرب بمن فيهم الفلسطينيون غير متفقين على الهدف الذي لا يزال مسيطراً على عقولنا منذ بدايات القرن الماضي. وفي ما يلي أشير إلى بعض النقاط الهامة التي تسبّبت في اختلاط هذه المفاهيم كما الأهداف التي يجري السعي لتحقيقها:
ـــ خلال الحرب العالمية الأولى وقّعت بريطانيا وفرنسا على اتفاقية سايكس ــ بيكو بتاريخ 16/5/1916 التي قسّمت بلاد الشام في ما بينها وأنشأت الكيانات التالية: لبنان، سورية، فلسطين وفي ما بعد شرق الأردن، وكان سبق ذلك سيطرة الفرنسيين على الشمال العربي الأفريقي والإنكليز على مصر والسودان ومشيخات الخليج وفي ما بعد العراق، وأعقب هذه الاتفاقية وعد بلفور بتاريخ 2/11/1917 الذي أسّس بقيام الكيان الصهيوني في فلسطين.
ننتيجة لما سبق، أصبح العالم العربي مقسّماً إلى كيانات عديدة مما أدّى بالعرب إلى التناقض الأول للمفاهيم: بينما لا زلنا حتى اليوم نستنكر الاتفاقيات وعلى رأسها سايكس ــ بيكو فإننا نتمسك بهذه الكيانات التي بدأت ضعيفة أو مجتزأة إلى أن أصبحت دولاً ذات حدود لا يمكن تجاوزها إلا عبر حصول وثائق رسمية. ودون الإفاضة في هذه الموضوع فإنه أدّى إلى الاختلاط في مفهوم قضية إنشاء الكيان الصهيوني: هل إنّ قضية هذا الجزء من العالم العربي أيّ فلسطين هي قضية عربية بالدرجة الأولى أم إنها قضية تخصّ الفلسطينيين وتدعمها الدول العربية؟ قرّر الحكام العرب في قمّتهم عام 1974 أنّ منظمة التحرير الفلسطينية هي الممثل الشرعي والوحيد والناطق الرسمي بإسم الشعب الفلسطيني. وبذلك تهرّبوا من مسؤولياتهم عن القضية، كقضية عربية وتركوا هذه المهمة لمنظمة التحرير.
تصوّروا مثلاً لو أنّ دولة ما غزت ولاية كاليفورنيا في الولايات المتحدة، قرّرت بقية الولايات أنّ مسؤولية تحرير هذه الولاية تقع على عاتق أهلها مع دعم القرارات التي سيتخذها حكام هذه الولاية.
ـــ كان لقرار إلقاء العبء على الفلسطينيين لتحرير وطنهم إنعكاسات خطيرة أدّت بقيادتهم، وبالرغم من الانتفاضة البطولية للشعب الفلسطيني عام 1987، إلى الاعتراف بالكيان الصهيوني عبر تعديل النظام الأساسي لمنظمة التحرير الفلسطينية والاكتفاء بالقبول بما سُمّي بحلّ الدولتين وتمّ تكريس ذلك في إتفاقية أوسلو عام 1993. من هنا نشأ الخلط الثاني في المفاهيم: هل الهدف هو تحرير كامل التراب الفلسطيني؟ أو الاكتفاء بتحرير الجزء الذي أحتُلّ عام 1967 واعتبار القدس الشرقية عاصمة له مع عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم؟
لا بدّ من الإشارة هنا إلى أنّ مصر السادات وأردن الحسين كانتا قد وقعتا «معاهدتي السلام» مع الكيان الصهيوني، وهو ما عُرف ببدء التطبيع من قبل الدول العربية مع هذا الكيان. إنّ الحجة الأساسية التي جرى ترويجها من قِبل أنصار حلّ الدولتين، هذا الحلّ الذي أصبح أساس ما سُمّي بالمبادرة العربية خلال القمة العربية في لبنان عام 2002 الذي كاد أن يهمل قضية العودة لولا تدخل الرئيس اللبناني حينئذ العماد إميل لحود، هي اختلال التوازن من جميع النواحي العسكرية والاقتصادية مع الكيان الصهيوني مع الدعم المطلق الذي يلقاه من قِبل الولايات المتحدة أولاً والدول الغربية ثانياً وغيرها من الدول بما فيها روسيا التي اعترفت بالكيان الصهيوني منذ إنشائه.
تصوّروا لو أنّ قيادات الثورات على مدّ التاريخ أخذت بعين الاعتبار اختلال التوازن بينهم وبين سلطات التي يثورون ضدّها لكانوا ألقوا بأسلحتهم وصرفوا أنصارهم قبل بدء الثورة. والدليل الأهمّ على ذلك هي الانتفاضة الثانية التي استمرت من عام 2000 حتى بعد اغتيال عرفات عام 2004 وقدّم فيها الفلسطينييون آلاف الشهداء والجرحى والأسرى رافضين فكرة الدولتين ومطالبين باستعادة فلسطين كاملة.
ــ أما الخلط الثالث فقد نشأ بعد استلام «غاندي فلسطين» محمود عباس رئاسة السلطة وهو المعروف ضمن المنظمة برفضه استعمال السلاح وإيمانه المطلق بالمفاوضات. عام 1974 وفي خطاب له في الأمم المتحدة وجه رئيس منظمة التحريري ياسر عرفات كلامه إلى رئيس الجمعية قائلاً «لقد جئتكم يا سيادة الرئيس بغصن الزيتون مع بندقية الثائر، فلا تُسقطوا الغُصن الأخضر من يدي» وهما رمزان للكفاح المسلح والمفاوضات. أما صاحب اليد الواحدة عباس فقد انطلق في مفاوضات استمرت حتى أيامنا هذه مُحرماً استعمال السلاح ومعتبراً حتى فترة قريبة نصيره العدو أيّ الولايات المتحدة وسيطاً نزيهاً في المفاوضات المختلفة التي أجراها هو ومعاونوه مع العدو، والتي أدّت في النهاية إلى اعتبار الوسيط النزيه، القدس بما فيها المسجد الأقصى وكنيسة القيامة أيّ القدس الشرقية عاصمة للدولة اليهودية ومن ثُم صفقة القرن التي قامت قيامة صاحب اليد الواحدة عليها وهو الآن يصول ويجول مستغيثاً بما يُسمّى المجتمع الدولي لرفض الصفقة وكأنّ العدو احترم أيّ قرار دولي صدر بشأن فلسطين.
أودّ أن أَخلُص من كلّ ما تقدّم إلى النتيجة التالية كما ذكرت سابقا إنّ كلّ ما يحصل الآن من ردود فعل على صفقة ترامب جيّد، ولكن إذا لم نرفق ذلك برؤية واضحة لطبيعة الصراع القائم فإنّ كلّ ذلك سيذهب هباءً. يجب أن نستندد في رؤيتنا إلى ما يلي:
أولاً: إنّ القضية هي قضية عربية قبل أن تكون قضية الشعب الفلسطيني وحده، أيّ أنّ مسؤولية الشعب العربي في كلّ أقطاره توازي مسؤولية الشعب الفلسطيني.
ثانياً: إنّ الهدف الأساس الذي يجب السعي إلى تحقيقه هو استعادة أرض فلسطين كاملة غير منقوصة.
ثالثا: إنّ الكفاح المسلح هو جزء لا يتجزأ بل لعله الجزء الأهمّ، من النضال في تحقيق هدف استعادة فلسطين.
ما لم يكن لدينا، نحن أبناء الشعب العربي في كلّ أقطاره، الوعي الكافي لإدراك هذه الحقائق البسيطة والغائبة عن وعي معظمنا فستلحق فلسطين بغيرها من أجزاء العالم العربي التي أحتلتها دول أخرى وأصبحت ضمن حدودها.