نحو تفاهمات دولية وإقليمية جديدة؟
زياد حافظ
تتسارع الأحداث في المنطقة وعلى الصعيد الدولي بشكل يوحي أننا على أبواب تفاهمات دولية وإقليمية قد تعيد بعض الاستقرار للمنطقة. ونقول ونشدّد أنّ التفاهمات ليست تسويات ولن تلغي الصراع القائم بين محورين تتحدّد ملامحهما بشكل أوضح يوماً بعد يوم. فمن جهة هناك المحور الغربي بقيادة الولايات المتحدة واوروبا وبعض الدول العربية والإقليمية، ومن جهة أخرى محور دول «بريكس» على الصعيد العالمي، والذي يضمّ ضمنياً محور المقاومة الممتدّ من الشواطئ الشرقية للبحر الأبيض المتوسط إلى وسط آسيا، أيّ إلى الحدود الشرقية للجمهورية الإسلامية في ايران. وإذا ما أضفنا منظومة شنغهاي والتي قد تضمّ قريباً الهند، فهذا يعني على الصعيد الجيوسياسي والجيواقتصادي أنها كتلة جغرافية وبشرية واقتصادية ومالية، وبالتالي سياسية، تبدأ في البحر المتوسط وتنتهي في البحر الأصفر في شرق آسيا. ومن الواضح أنّ المحور الغربي في حال تراجع استراتيجي، فهو أكثر من أفول وأقلّ من انهيار وإن لا نستبعد إمكانية انهياره التي تزداد يوماً بعد يوم في ظلّ تردّي نوعية القيادات الغربية وعجزها فكرياً وأخلاقياً عن مواجهة مشاكلها الداخلية البنيوية والنظامية السياسية والاقتصادية والاجتماعية وحتى الثقافية .
من جهة أخرى فإنّ المحور المواجه للهيمنة الغربية في حال صعود بسبب استراتيجيات ورؤى واضحة وقيادات حكيمة ونفس طويل في مقاربة الأزمات والتحدّيات. هذا طبعاً لا ينفي وجود تناقضات جوهرية بينها ولكن تلك الدول استطاعت ترتيب أولويات المرحلة الحالية وتحييد قدر الإمكان التناقضات القائمة والممكنة لمواجهة تزداد فعالية مع الوقت.
وبناء على ذلك نعتقد أنّ أقصى ما يمكن الوصول إليه بين المحورين المتصارعين هو تفاهمات وليس تسويات. فالتسويات تعكس توازنات مستقرّة إلى حدّ كبير بين الطرفين، بينما التفاهمات هي دون مستوى التسويات وتعكس توازنات غير مستقرّة. فإذا اعتبرنا أنّ هناك محوراً صاعداً، أيّ محور دول «بريكس» ومعه محور دول المقاومة والممانعة فإنّ التسوية تكبح صعود ذلك المحور وتكبح تراجع المحور الآخر. فلماذا التسوية؟
في المقابل، فإنّ المحور المتراجع ما زال في حالة إنكار ويعتبر أنّ تراجعه تراجع ظرفي، وبالتالي لا يريد وضع قيود على حرّية تحرّكه في سعيه إلى كسر التوازن لمصلحته.
إنّ جوهر العلاقات الدولية في عالم متعدّد القطبية هو السعي إلى نوع من التوازن وإنْ كان هشّا. فالتوازن غير المستقرّ أفضل من المجابهة العسكرية المفتوحة التي من الصعب تحديد نتائجها وكلفتها. هذا يعني أنّ الصراع مستمرّ وهدف التفاهمات هو ضبط إيقاع الصراع وخلق الأرضية السياسية المناسبة لتحقيقه. فليس هناك من سلام من جهة كما ليس هناك من استقرار دائم بل محاولات متفاوتة النجاح لتحقيق تفاهمات تؤمّن الحدّ الأدنى من الاستقرار. وهذا الأمر في آخر المطاف شيء إيجابيّ لأنه يجنّب الشعوب مآسي المغامرات العسكرية سواء كانت داخلية أو خارجية.
قد تطول فترة التفاهمات وقد تقصر بناء على حكمة الأطراف المعنية. من ناحيتنا لا نثق كثيراً في حكمة وبصيرة القيادات الغربية وبالتالي نتوقع استمرار الصراع، ولكن ما سيردع جموح الغرب لارتكاب حماقة قاتلة هو وعيه بالكلفة الباهظة للحماقة. نعيش في عالم مختلف عما أفرزته نهاية الحرب الباردة، ومن قبل ذلك نهاية الحرب العالمية الثانية. إنّ تسوية يالطا كانت بين الحلفاء المنتصرين بينما اليوم التفاهمات هي فقط بين محورين يسيران في اتجاهين معاكسين.
استشراف ملامح مرحلة مقبلة
على خلفية ذلك المشهد الدولي يمكن استشراف ملامح مرحلة مقبلة مبنية على قراءة في موازين القوة. فالغرب مستنزف بأزمة سياسية داخلية وتفاقم وضعه الاقتصادي يجعله جاهزاً للتخفيف من حدّة التوتر في الملفات الساخنة بدءاً بالملف الأوكراني ووصولاً إلى الملف النووي الإيراني ومروراً بالأزمة السورية والعراقية وانعكاساتها على دول الجزيرة العربية وبلاد وادي النيل وشمال أفريقيا، أيّ مصر والسودان وليبيا والامتدادات المنظورة في العديد من دول القارة الإفريقية وحتى الدول الأوروبية.
لم تصل الدول الغربية إلى حالة الإقرار بضعفها البنيوي، ليست لأنها غير راغبة بذلك، بل بسبب عجزها البنيوي والاستراتيجي الذي يمنعها عن ذلك، ناهيك أنّ الإقرار بالتراجع أو الهزيمة الاستراتيجية يشكل انهياراً كاملاً لمنظومته الفكرية والسياسية. إلى أن يتمّ ذلك، وهذا مستبعد في المدى المنظور، فالغرب يتعامل مع الملفات الساخنة من موقع ردّة الفعل وليس من موقع الفعل والتخطيط. هذا لا يعني أنّ الولايات المتحدة عاجزة عن إلحاق الأذى والخربطة في دول العالم وفي المنطقة بسبب ما تبقّى لها من قدرات، إلاّ أن تلك القدرات لم تعد كافية لإملاء القرارات على الغير. فالقوة النارية، أيّ القوة العسكرية المفرطة، برهنت محدودياتها، كما تبيّن في العراق وافغانستان، وكما اتضح مع امتدادها الإقليمي عبر الكيان الصهيوني. أما الهيمنة الشبه المطلقة على شرايين المال في النظام المالي الدولي وهي الأكثر فعالية من القدرات العسكرية فأصبحت مهتزّة أمام قرارات دول «بريكس» الساعية إلى إيجاد منظومة مدفوعات وطريقة تبادل تجاري ومالي يستثني اللجوء إلى الدولار والخضوع للمشيئة الأميركية. فالصفقات الغازية الكبيرة بين الصين وروسيا ودعوة الصين وروسيا لدول آسيا للتعامل معها تجارياً وفي الأسواق المالية بالعملات الوطنية، مؤشرات واضحة حول ما يمكن أن يصيب الدولار من تراجع في النفوذ، وبالتالي في قدرات الولايات المتحدة على تنفيذ أجندتها السياسية الخارجية.
كل ذلك ليس بالجديد وقد تمّ ذكره من قبل وفي العديد من التقارير والأبحاث، ولكن اعتبرنا من الضروري التذكير به لفهم ملامح المرحلة المقبلة. فعلى صعيد التفاهمات، وليس التسويات، نتجه إلى صفقة بين مجموعة الدول الـ5+1 لإنجاز التفاهم مع ايران سواء عبر اتفاق معلن أو عبر تفاهمات غير معلنة يعمل بها. فالغرب بشكل عام وخاصة الاتحاد الاوروبي ومعه روسيا والصين متعبون بالعقوبات المفروضة على إيران والتي تعيق طموحاتهم في توسيع العمل الاقتصادي مع الجمهورية الاسلامية. نذكّر أنّ الأخيرة هي المنتج الثاني للنفط بعد المملكة العربية السعودية وأنّ لديها مخزوناً واحتياطياً من النفط والغاز يجعلها جائزة كبرى للتعامل معها. من جهة أخرى فإنّ الجمهورية الإسلامية حريصة على أن ترفع العقوبات عنها لتنطلق بتنميتها دون القيود المفروضة عليها. صحيح أنها قد تتضرّر في المدى القريب من انخفاض سعر النفط ولكن قد لا يستمّر ذلك لوقت طويل لأنّ انخفاض سعر برميل النفط يؤذي أيضاً من يسعى لتخفيضه بغية ترويض أو كسر الإرادة الايرانية والروسية والفنزويلية على حدّ سواه.
الاتحاد الأوروبي في مأزق استراتيجي
ونذكّر أنّ من أسباب تراجع سعر البرميل عوامل اقتصادية كتراجع الطلب العالمي على النفط بسبب تراجع الأداء في اقتصاديات دول العالم. فعودة عجلة الاقتصاد العالمي وخاصة في الدول السريعة النمو سيؤدّي إلى ارتفاع الطلب وبالتالي سعر النفط، للوصول إلى توازن جديد قد يختلف بعض الشيء مع التوازن الذي كان قبل الأزمة الحالية.
أما في الملّف الأوكراني فالاتحاد الأوروبي في مأزق استراتيجي. فتطبيقاً لمثل أميركي يقول: إنْ كسرته فإنك تملكه وعليك أن تتحمّل نتائج ذلك، فالاتحاد الاوروبي لا يستطيع تحمّل الأعباء الاقتصادية والمالية الناتجة عن الأزمة الاوكرانية، خاصة أنّ دول الأطراف في الاتحاد الاوروبي تعاني من ضيق مالي وتراجع اقتصادي يهدّد بشكل جدّي عقد الترابط بين دول الاتحاد. كذلك الأمر يطال دولاً أكبر كفرنسا مثلاً التي تعاني من بطالة متفاقمة. أما المانيا فلا تجد أي مبرّر لتحميل اقتصادها ورخاء شعبها معاناة الأعباء الأوكرانية. ثم هناك العديد من الدول الأوروبية ستواجه استحقاقات انتخابية العام المقبل، والتي قد تطيح بالحكومات الحالية وتأتي بحكومات يمينية متطرّفة ترفض الامتثال لقرارات الاتحاد الاوروبي ولإملاءات الولايات المتحدة التي تضرّ بها. فليس من المستبعد أن نرى دولاً كالمملكة المتحدة تقرّ خروجها من الاتحاد الاوروبي بعدما رفضت منذ البداية الدخول في منطقة اليورو.
ونذكّر بتنامي النزعات الانفصالية في العديد من تلك الدول وإنْ لم تصل حتى الآن إلى نقطة اللارجوع إلاّ أنها تنذر بالمزيد من الأزمات داخل دول الاتحاد. لذلك نرى يوماً بعد يوم تثبيت وقف إطلاق النار في اوكرانيا تنفيذا لاتفاق مينسك الذي حصل بين كل من روسيا وأوكرانيا والاتحاد الاوروبي وبدفع من المانيا ولكن بالغياب الواضح للولايات المتحدة. لقد وصلت سياسة الولايات المتحدة إلى طريق مسدود في الموضوع الأوكراني والخيارات المتاحة لها محدودة جداً سواء التفاهم مع روسيا. صحيح أنّ داخل الولايات المتحدة وخاصة في الكونغرس من ينادي بالتصعيد ومجابهة روسيا إلاّ أنّ سلوك البيت الأبيض لا يدلّ على الرضوخ لذلك الزعيق!
وفي الملفّ السوري نرى تعاظم الجهود لإيجاد الحلّ السياسي الذي ينادي به كلّ من الحكومة السورية وروسيا ومعهما العديد من الدول التي كانت تدعم العمليات والتدخل العسكري. في هذا السياق نراقب عن كثب جهود ما يسّمى بالمبادرة الروسية لتحضير لحوار بين الدولة ومعارضة تلتزم بوحدة سورية وعروبتها وموقعها ودورها السياسي خاصة في دعمها للمقاومة في فلسطين وفي لبنان. قد تساهم في بلورة تلك الجهود جمهورية مصر العربية مما يعلن عودة مصر إلى ممارسة دورها الإقليمي وإعادة التوازن الذي فقده النظام الإقليمي العربي. وقد نشهد قريباً بلورة نظام إقليمي جديد قوامه كلّ من مصر وسورية والعراق وربما معهم المملكة العربية السعودية وينضمّ إليه كلّ من السودان والجزائر.
وقفة جادة لمواجهة التطرّف
هذا يعني أنّ الأزمة التي تعصف ببلاد الشام وبلاد الرافدين تتطلّب وقفة جادة لمواجهة التطرّف المدمّر والفتن العبثية. هذا الملف في غاية الدقّة والحساسية ولكن نعتبر أنّ نقطة الانطلاق لتلك الأزمة بدأت في العراق، وذلك منذ الاحتلال الأميركي فلا بدّ من أن يبدأ الحلّ أيضاً من العراق عبر إعادة لملمة الوضع الداخلي وإشراك كافة مكوّنات المجتمع العراقي بشكل يفقد دعاة التطرّف ورقة حاسمة في تقدّم مشروعها السياسي. ونرى هنا مسؤولية كبيرة تقع على كلّ من الجمهورية الاسلامية في إيران لما لها من نفوذ في العراق، كما على النخب الحاكمة العراقية لإشراك الجميع بما فيهم حزب البعث في الحوار لإعادة تركيب السلطة.
أما في ما يتعلق بالقضية الأم ايّ القضية الفلسطينية ونحن نفضّل تسميتها بالقضية العربية في فلسطين فإنّ التخبّط الذي يسود النخب الحاكمة في الكيان الصهيوني هو امتداد للتخبّط الموجود في المجتمعات الغربية بشكل عام والأميركية بشكل خاص، إضافة إلى فقدان الأمن والاستقرار بسبب الفعالية المتزايدة والمتراكمة لنضال الشعب العربي في فلسطين. وبالنسبة إلى التفاهمات المرتقبة على الصعيد الدولي والإقليمي فليس من الضروري أن تتناول ملف الصراع العربي ـ الصهيوني. فهذا صراع وجود وليس صراع حدود، ولا نرى من يستطيع أن يصفّي القضية ويجد لها حلاّ غير التحرير الكامل لكافة التراب الفلسطيني واسترجاع كافة الحقوق والتعويض لما خسره أهلنا في كلّ من فلسطين المغتصبة وفلسطين المحتلّة.
يبقى الملّف الذي يؤرق بعض اللبنانيين وهو انتخاب رئيس جديد للجمهورية اللبنانية. لا نعتقد أنه بالإمكان المجيء برئيس معاد لكلّ من سورية والمقاومة. كما أنّ الرئيس المرتقب سيكون منسجماً مع التفاهمات المتوقعة وليس على تناقض معها.
إنّ ترابط الملفّات الإقليمية والدولية بعضها ببعض كان سبباً أساسيا في تعقيدات الأزمات المختلفة. في المقابل فإنّ التفاهمات الدولية والإقليمية ستساهم بشكل مباشر في تخفيف حدّة التوترات وخاصة التوترات المذهبية وتعيد التنافس بين الدول في المنطقة إلى طابعها السياسي بعيداً عن الطابع العبثي الذي اتخذه وكاد يقضي على مقوّمات البقاء للجميع. فالمستفيد الأول بل الوحيد من الفتنة هو الكيان الصهيوني وهذا ما يجب تفويت الفرصة عليه خاصة بعد الهزائم التي مُنيَ بها وبعد التخبّط القائم في داخله.
أمين عام المنتدى القومي العربي