المتغيّرات الإقليمية والاستراتيجيات «الإسرائيلية» الجديدة
د. حسن مرهج
كقاعدة عامة، يبدو واضحاً أنّ جلّ القراءات «الإسرائيلية» تجاه المتغيّرات الإقليمية، تنطلق من بعدين أساسيين:
الأول – فرضيات استراتيجية قابلة للتعديل بناءً على توجهات المحيط الإقليمي تجاه النظرة العامة سياسياً وعسكرياً لـ «إسرائيل».
الثاني– أبجديات الصراع العربي ـ «الإسرائيلي» باتت في الحسابات الاستراتيجية لـ «إسرائيل» من الماضي، والبناء الحقيقي ينطلق من مفردات جديدة على نمط الصراع الفلسطيني ـ «الإسرائيلي»، وهذا يبدو أنه ثابت لجهة الرغبات الإقليمية بالتوصل أيضاً إلى فضّ هذا الصراع بوسائل عدة.
هذه القراءات «الإسرائيلية» الجديدة بمجملها تبدو وكأنها نسق من عقيدة الأمن «الإسرائيلية»، التي صاغها أول رئيس لحكومة الاحتلال ووزير دفاعها ديفيد بن غورين، وجاءت تلك العقيدة الأمنية لتعزيز قوة الردع وفقاً للظروف الجيوسياسية المتعلقة بضعف العمق الاستراتيجي، وتكوين شراكات مع الدول غير العربية في المنطقة مثل إيران وتركيا وإثيوبيا، عوضاً عن استخدام الحرب الوقائية للدفاع عن أمنها القومي، ونقل المعركة إلى خارج حدود الكيان «الإسرائيلي».
لكن برزت العديد من المتغيّرات الإقليمية التي من شأنها اختبار العقيدة الأمنية «الإسرائيلية» وعلاقاتها الخارجية بما يستدعي الوقوف عند حدود هذه العقيدة ومدى نجاحها؟ إذ أنّ محدّدات الاستراتيجية العسكرية يتطلب تحقيقها تنفيذ الهجوم الاستباقي، ويمثل أبرز عناصر هذه الاستراتيجية (الهجوم الاستباقي – تحقيق نصر حاسم – تقليل الخسائر البشرية – الحرب الوقائية – الحروب الخاطفة – نقل المعارك خارج الحدود «الإسرائيلية»).
القادة «الإسرائيليون ومنظرو الاستراتيجيات «الإسرائيلية»، اعتبروا عقيدة الطرف أو المحيط الخارجي استراتيجية مؤقتة يجب الحفاظ عليها طالما رفضت الدول العربية الاعتراف بـ «إسرائيل» وصنع السلام معها. ولم ينظر إليها كبديل للعقيدة المركزية في السياسة «الإسرائيلية» المتمثلة في ما تسمّيه «تحقيق السلام مع جيران إسرائيل من العرب». ولا يمكن أن تكون بديلاً لعلاقة استراتيجية مع قوة عسكرية خارجية قوية، مثل الاتحاد السوفياتي في الأربعينيات، وفرنسا في الخمسينيات، والولايات المتحدة بعد عام 1967.
إنّ تحالف «إسرائيل» الخارجي مع تركيا وإيران وإثيوبيا تمّ إنشاؤه في الخمسينيات كأداة لتفادي السلام مع العرب، على أنّ العودة مجدداً إلى هذا التحالف تمرّ عبر المصالحة مع العالم العربي، وبالتالي أدركت «إسرائيل» بأنّ تحسين العلاقات مع الدول العربية المجاورة سيشكل البديل السياسي الحتمي والوحيد لاستراتيجية عقيدة الطرف أو المحيط الخارجي بما في ذلك العلاقات مع الفلسطينين أنفسهم.
من هنا، يمكننا قراءة جوهر الاستراتيجية «الإسرائيلية» الجديدة، والتي تتماهى جملة وتفصيلاً، مع الواقع العربي الموغل في السعي إلى التطبيع مع «إسرائيل»، دون إغفال حقيقيةً جوهرية صاغها محور المقاومة ككلّ، والتي تعدّ في الأهداف والمضمون تهديداً حقيقياً لـ «إسرائيل». في هذا الإطار عقدت مراكز الأبحاث «الإسرائيلية» سلسلة ندوات، وفي إحداها تمّ طرح الاستراتيجية على شكل عدد من الأسئلة، ووضع الإجابة عليها بشكل محدّد تماماً، على النحو التالي:
ـ السؤال الاستراتيجي الأول:
هل قبل العرب السلام مع «إسرائيل» نتيجة «اقتناع بجدوى السلام» أم نتيجة الضعف؟
الجواب «الإسرائيلي»:
أنّ العرب قبلوا السلام عن ضعف وليس عن اقتناع.
ـ السؤال الاستراتيجي الثاني:
إذا شعر العرب يوماً ما أنهم أقوياء، هل يعودوا للصراع مع «إسرائيل» بغضّ النظر عن أية اتفاقيات؟
الجواب «الإسرائيلي»: نعم يعودون للصراع، فهم قبلوا الخضوع للرومان وللفرس والصليبيين وللعثمانيين وللاستعمار الأوروبي بخاصة بريطانيا وفرنسا، لكنهم كانوا يعودون للصراع في كلّ مرة يعتقدون فيها أنهم قادرون على الصراع.. لذلك سيعود العرب للصراع إذا استشعروا القوة.
ـ السؤال الاستراتيجي الثالث:
إذا كان الأمر كما ورد في السؤال الثاني، فما هو الحلّ؟
الجواب: ان يبقوا ضعفاء دائماً.
ـ السؤال الاستراتيجي الرابع:
وكيف يبقون ضعفاء دائماً؟
الجواب: بالتدخل في بنيتهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية وبخاصة في مواطن القوة في أيّ من هذه البنيات.
أما السؤال الاستراتيجي الخامس، فتمّت بلورته بطريقة مستدامة، أيّ استمرار التدخل في بنية النظام العربي عبر وسائل عدة هي:
1 ـ إثارة الصراعات الداخلية بخاصة القائمة على الثقافات الفرعية (الدين والمذاهب والقوميات والنزعات القبلية والوطنيات المحلية إلخ…)
2 ـ جذب وإغراء الدول الكبرى للتنافس على المنطقة، وهو ما يمنع المنطقة العربية من الاستقرار.
3 ـ العمل على منعهم من امتلاك أية مقوّمات للقوة غير التقليدية (كالنووي أو غيره).
4 ـ التغلغل في الشركات والهيئات الاستشارية الأجنبية لتوجيه التنمية العربية في مسارات غير مجدية، على أن يتمّ ذلك بذكاء وحذر شديدين وبعد دراسات معمّقة.
5 ـ التجسّس الدائم على كلّ مرافق الحياة العربية وتحديد القطاعات التي يمكن ان تكون مصدر تهديد لـ «إسرائيل» والعمل على خنق هذا المصدر.
6 ـ تحديد بؤر الضعف في النخب العربية والتركيز عليها لجذبها نحو توجيه الإنتاج الأدبي والفني والفكري نحو مسارات معينة.
7 ـ التحالف مع دول الجوار العربي لمساندة هذا المشروع، وفي حالة ظهور قوى إقليمية مساندة للعرب يتمّ العمل على محاصرتها سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، والتركيز على عدم جدوى العلاقات العربية مع الحلفاء من غير العرب.
8 ـ التركيز على أربع دول عربية هي: مصر والعراق وسورية والجزائر.
9 ـ عدم الركون للحفاظ على الأمن «الإسرائيلي» لأية التزامات دولية فردية او جماعية، والعمل على ضمان الأمن «الإسرائيلي» بأدوات «إسرائيلية» ورفدها بالتحالفات الدولية طبقاً للظروف الدولية.
10 ـ منع إقامة أيّ كيان سياسي فلسطيني غرب نهر الأردن.
11 ـ العمل على كسب الرأي العام الشعبي في العالم لا سيما في قطاعات النشطاء سياسياً.
في المحصّلة، وبصرف النظر عن أيّ قراءات «إسرائيلية» والبناء الاستراتيجي عليها، يبدو واضحاً أنّ جلّ هذه القراءات تفتقر إلى المنظار الواقعي المحيط بـ «إسرائيل»، خاصة أنّ سورية على أبواب النصر المؤرق في تداعياته لـ «إسرائيل»، كما أنّ إيران حاضرة وبقوة في المحيط الإقليمي، حتى أنها باتت نداً للولايات المتحدة الأميركية في عموم الشرق الأوسط، ولعلّ الحقيقة المرة التي تتجاهلها «إسرائيل»، هي أنّ روسيا وبحسب استراتيجيتها في الشرق الأوسط، لم تعد تحابي «إسرائيل» أو تتماهى مع سياستها تجاه سورية وإيران، ولعلّ هذه الجزئية تحتاج إلى إفراد مساحات كبيرة من القراءات «الإسرائيلية»، بغية البناء على فرضيات جديدة أوّلها وفي مقدمتها أنّ سورية باتت أقوى من ذي قبل، وأنّ روسيا تدعمها بالمطلق، وكذا إيران التي باتت عاملاً فاعلاً ومؤثراً في سياق المنطقة، وبالتالي فإنّ الوقائع تفرض ذاتها، ولا ينبغي التعويل على حكومات المطبّعين مع «إسرائيل»، فجملة الحقائق واضحة كالشمس…