بين عضّ الأصابع وحافة الهاوية والانهيار
ناصر قنديل
– مهما حاول ديفيد شنكر وسواه من المسؤولين الأميركيين إخفاء دورهم في الأزمة المالية وتداعياتها، عبر الحديث عن مسؤولية أخرى صحيحة لا يمكن لأصحابها إنكارها وهي مسؤولية القيادات السياسية اللبنانية التي أمسكت بزمام الحكم خلال الأعوام الثلاثين الماضية وتعاقبت على المواقع المقررة فيه. فالمسؤولية موزعة بين إرادة داخلية أعماها الطمع عن رؤية مخاطر لعبة الدين المفتوحة بلا سقوف، بما يوفره الدين من مال سهل لا يسأل أصحابه إلا عن أسعار الفوائد، من دون أن يعنيهم كيف يتمّ إنفاق المال، رغم أن الذين قاموا بتوفير الاستدانة وتسهيلها في الداخل والخارج كانوا يعلمون واقع الحال سواء لجهة فوضى التوظيف في القطاع العام أو المحاصصة الحاكمة للتلزيمات والقطاعات الاقتصادية في الدولة، والفساد المسشتري في قواعد التوظيف والإنفاق معاً، ويعلمون أيضاً أن بلوغ الديون سقوفاً عالية سيعرضها للضياع، وبلوغ لبنان معها شفير الهاوية والسقوط، وهذا يجعلهم شركاء في الجريمة مرتين، مرة لأنهم شركاء ضمنيون في الفساد الذي قبضوا ثمن شراكتهم بتمويله فوائد مبالغ بها، ومرة لأنهم عرضوا بسبب هذا الجشع أصحاب الأموال الذين وثقوا بهم وبخبرتهم ومسؤوليتهم لضمان مستقبل استثمار أموالهم. وهذا يطال المصارف اللبنانية والمؤسسات المالية الداخلية والخارجية التي شاركت في توفير التمويل للديون، وتسويق الديون، وإصدار التقارير حولها، وصولاً للمسؤولين في مصرف لبنان ومن خلفهم المسؤولون في البنك الدولي وصندوق النقد الدولي اللذين كان يجري كل شيء تحت أنظارهم.
– تقع واشنطن دون سواها من عواصم القرار في قلب النظام المالي الممسك باقتصادات العالم، ومنذ تقهقر القدرة العسكرية الأميركية كما ظهر في لبنان مع رحيل المارينز، وعاد للظهور مجدداً في حربي العراق وأفغانستان، تحوّلت هذه السيطرة المالية إلى سلاح آخذ في التعاظم، وإلى الأداة الرئيسية التي تملكها الإدارات الأميركية في فرض إرادتها على دول وشعوب العالم وتسخير مصطلحات مثل الحرب على الإرهاب وحقوق الإنسان لتوصيف كل خصم أو حليف يتمسّك بخصوصية مزعجة على لوائح العقوبات، وصولاً لمرحلة الرئيس دونالد ترامب الذي أفرط إلى الحدود القصوى في استخدام سلاح العقوبات، وأدمجه بالمصالح التجارية فنال حلفاء واشنطن منه الكثير، ولا تكاد توجد دولة في العالم لا تنطبق عليها واحدة من مفردات العقوبات الأميركية. ومن الطبيعي أن نقرأ في العقوبات الأميركية على حزب الله، لما يسببه من قلق على أمن “إسرائيل”، وكحليف رئيسي لإيران، وفشلها في تطويع الحزب، كمدخل لمحاولة تركيع لبنان وإسقاطه على رأس أبنائه عسى أن ينال حزبَ الله بعضٌ من نتائج أضرار السقوط، ولا يعود أمامنا مجال للاجتهاد عندما نسمع وزير مالية فرنسا يتحدث من منبر وزراء مالية دول قمة العشرين، وهو يدعو للفصل بين دعم لبناني مالياً وصولاً لتعافيه وبين المعارك التي تخوضها واشنطن مع إيران، ولا مبرر للدعوة للفصل بين كيانين منفصلين، والاتصال بينهما إما أن تقيمه واشنطن أو لا يكون.
– السؤال المجدي والجدّي، لم يعد حول النيات الأميركية ولا حول وجود أو عدم وجود خطة أميركية للذهاب بالوضع المالي إلى الحد الذي يسمح بفتح الباب للمكاسب السياسية التي تنتظرها واشنطن، والتي أفصح عنها حلفاء واشنطن في لبنان وخارجه، كشروط لنهوض لبنان، بينما هي في الحقيقة الثمن الذي تطلبه واشنطن لإيقاف حربها المالية على لبنان. السؤال هو هل ما يجري بيننا وبين واشنطن، مباشرة أو عبر البوابة الأوروبية ومنها مؤتمر سيدر ومصيره المعلّق، ومنها كيفية تعامل شركات التصنيف الائتمانية، والبنك الدولي وصندوق النقد الدولي، هو عضّ أصابع ينتظر الصراخ، أم لعب على حافة الهاوية رهانا على السقوط، أم هو قرار بدفع لبنان نحو الانهيار، وليس بمستطاع لبنان ربط مصيره بالتنبؤات؟ لذلك ستقول لنا حدود المسافة التي ستتجرأ فرنسا على قطعها نحو مساعدة لبنان، حقيقة القرار الأميركي، فإن كان القرار هو إسقاط لبنان فلن تجرؤ فرنسا أو سواها في الخليج وغير الخليج على التمرّد، وفي هذه الحالة على اللبنانيين، أو على الأقل الذين لا ينتظرون السقوط ليرقصوا على قبور أبناء وطنهم، التفكير في كيفية الاستعداد لخيارات جذرية تبدو اليوم مستغربة، لكنها قد تصبح في الغد ممراً إلزامياً لمنع السقوط، وفي طليعتها التكامل الغذائي والنفطي والكهربائي والاستهلاكي مع سورية والعراق، ووضع الخطط اللازمة لترجمة ذلك عندما يصير الاختيار قائماً بينها وبين ترك السقوط المدوّي يقع.