العراق نحو فراغ داخليّ يريح الأميركيّين
} د. وفيق إبراهيم
يهرول العراق نحو مزيد من الصراعات الحادة بين قواه السياسية، في مرحلة يبدو في أمسّ الحاجة لتشكيل حكومة تحتوي الانهيار الاجتماعي الداخلي، وتعالج الفساد السياسي المستشري وتعمل على سحب القوات الأميركية الموجودة على أراضيه منذ سبعة عشر عاماً متواصلاً، لكنه لا يفعل في مسلسل مصطنع بتكليف رؤساء وحكومات وامتثالهم اما بتصعيب مهمة التشكيل او بالتهرب من منحها الثقة لإسقاطها.
فماذا يجري على أرض الرافدين؟
هناك التحام بين عاملين يضعان العراق تحت مطرقتيهما، أولاً الخلافات على النفوذ بين قوى الداخل وبالتالي على الحصص الوزارية والإدارية، وهنا منبت الفساد.
والنفوذ الكبير للقوات الاميركية التي تسيطر على جزء هام من القرار السياسي العراقي ومساحات كبيرة من أراضيه على شكل قواعد عسكرية مستقلة ومستشارين يدربون القوات العراقية وتأثير كبير على القوى السياسية في كردستان والوسط.
إن هذين العاملين يلعبان ضمن ظروف أصبحت شديدة الصعوبة، فهناك تصعيد اميركي لن يقف عند حدود الضغط السياسي، وهذا ما قاله الرئيس الأميركي ترامب في آخر زيارة لإحدى قواعد جيشه في العراق، بأن بلاده لن تنسحب من العراق لأنها تريد ادارة المنطقة منه! من دون تجاهل ما يجري في سورية من أزمة لها أشكال حربية الى مرحلة حرب مفتوحة قابلة للتطور عسكرياً بما يجعل العراق جزءاً منها، وغير قادر على النأي بنفسه عن تداعياتها.
وذلك للارتباط البنيوي بين قواه السياسية المتنوّعة وبين اطراف الازمة في سورية المجاورة.
لكن المشكلة هي ان الاضطراب السائد في قوى الداخل يشمل كافة مناطق العراق من دون استثناء ولم تتمكن الضوابط التقليدية الكبرى من تأمين قواسم مشتركة مقبولة منها.
فعلى سبيل المثال لا الحصر لو تمكنت المرجعية الدينية من حل الخلافات بين قوى الحشد وسائرون لما تغيّب نواب ائتلاف دولة القانون الذي يترأسه نور المالكي عن جلسة الثقة التي فشلت وادت الى استقالة الرئيس المكلف تشكيل الحكومة محمد توفيق علاوي، ولو نجح الفتح والحكمة والنصر وسائرون بإقناع القوى السياسية في كردستان والوسط بالحضور، لكان للعراق حكومة، قادرة على مجابهة الفساد والاحتلال الأميركي.
لماذا فشلت جلسة الثقة؟
إن تحديد الغائبين يكشف الأسباب، وأول الغائبين هو التحالف الكردستاني الذي تمكن من إقناع كل القوى بالتغيب عن الجلسة وكان البرزاني اعلن قبل أيام عدة رفض إقليمه كردستان انسحاب الأميركيين من العراق، وتبنى هذا الموقف رئيس جمهورية العراق برهم صالح.
كذلك فإن رئيس مجلس نواب كل العراق محمد الحلبوسي أقنع تحالف القوى العراقية، الممثل لنواب الوسط بعدم الحضور مبدياً حرصه على احترام المعاهدات مع القوات الاميركية، التي لا تزال على حد قوله «ضرورية لمحاربة الإرهاب».
اما تحالف دولة القانون فكان رئيسه نور المالكي من كبار الرافضين لتكليف علاوي، المقرّب من سائرون الذي يترأسه مقتدى الصدر.
وبما أن هنالك تنافساً حاداً بين هذين الفريقين في الداخل فقد استنكف المالكي حضور الجلسة.
يتبين بهذا التشريح أن سقوط جلسة الثقة، يعود الى منافسات داخلية بين ابناء الفريق الواحد من الحشد الشعبي وسائرون بالإضافة الى الاسباب الخارجية المتجسدة في نفوذ اميركي قوي يفرق الداخل بين أعراق وطوائف منذ مرحلة بريمير ويثير بينها ذعراً كبيراً فيمسكها ويجعلها تطبق تعليماته، وأولها الحيلولة دون أية وحدة وطنية داخلية، تؤدي الى ترحيل الأميركيين وإعادة بناء عراق قوي داخلياً وإقليمياً.
هذا ما يفعله الاميركيون منذ احتلالهم للعراق في 2003 مطبقاً سياسة فرق تسُد.
هناك اذاً عودة الى مشاورات جديدة لتكليف شخصية جديدة لتشكيل الحكومة بمهلة 15 يوماً يستشير بها الرئيس برهم صالح الكتل والأحزاب ولا بدّ من اصطدامه حسب رغبة المخططين لدفع العراق نحو الفراغ. بالخلافات حول هوية الكتلة الأكبر، لان هذا الامر يتطلب توافقاً مسبقاً بين كتلتي البناء وسائرون. وهذا بمفرده كافٍ لاندلاع مشاحنات بينهما لا يعرف أحد مداها، أي مزيد من الوقت المصنع لفراغ دستوري وسياسي لا يفعل الا المزيد من إضعاف العراق.
لكنه يؤدي الى مسائل أكبر، وأولها تحييد القوات الأميركية في العراق عن اي مطالبة بسحبها منه بداعي انتهاء مهامها.
هناك قطبة مخفية يراهن فيها الأميركيون على تقسيم العراق بشكل أكثر فدرالية وذلك بواسطة هذا الفراغ الدافع لتوسيع حجم الحراك الشعبي وتحوّله فوضى كبيرة تضرب بغداد حتى أقصى الجنوب عند البصرة، ومع غياب حكومة قادرة يمكن لكردستان والوسط الذهاب بعيداً والمطالبة بكونفدرالية موسّعة، لا تستبقي من العراق التقليدي إلا روابط بسيطة على مستوى التمثيل الخارجي بذلك يبقى الأميركيون على طول الحدود العراقية السورية من الأنبار حتى حدود كردستان مع تركيا.
وهذا من شأنه منع أي تنسيق سوري عراقي وضبط العراق في انقساماته الداخلية بحيث لا يستطيع بناء دولة تؤدي دوراً وطنياً اقليمياً.
هل هناك قوى بوسعها مجابهة مشروع الفراغ القاتل؟ هناك المرجعية الدينية الكبرى التي يتوجب عليها الضغط على البناء وسائرون للاتفاق السريع على شخصية عراقية نزيهة، وإعلان برنامج يوحّد بين العراقيين فعلياً، وذلك لإعادة جذب بعض القوى السياسية في الوسط وكردستان لأن أي حكومة تقاطعها هاتان المنطقتان لن تحظى بالصفة الوطنية، حتى لو أمنت تأييد 165 نائباً يشترطهم الدستور الحالي.
هذا ليس مستحيلاً لأن إنقاذ العراق يحتاج الى تضحيات تعيد الانتماء إليه أكبر من المسائل العرقية والمذهبية التي يختبئ خلفها الأميركيون وبعض الخليج وتركيا، والفساد السياسي الموجود بين السياسيين في كل مناطق العراق.