«أعرف عدوّك» 1
} وجدي المصري
يعتقد كثيرون أنّ الحركة الصهيونية التي أسّسها هرتزل أواخر القرن التاسع عشر هي التي وضعت القطار على سكة الوصول الى دولة إسرائيل الحديثة… في فلسطين. لكننا إذا حاولنا تتبّع الإرهاصات الأولى للمفكّرين اليهود الذين وضعوا هذه الغاية نصب أعينهم وعملوا على تحقيقها، لوجدنا أنّ هذه الفكرة ظلت تلامس الوجدان اليهودي منذ أن أضطّر اليهود إلى مغادرة فلسطين عام 70 م بعد أن سيطر الرومان على كامل سورية، ومنها بالطبع فلسطين.. وكان الحاخامات يسعون لتربية الأجيال اليهودية التي نشأت في الدول التي لجأ إليها اليهود على الاحتفاظ بعلاقة دينية بينهم وبين «أرض الميعاد»، وضروري في البداية أن نشرح معنى هذا المصطلح الذي يُفسّر على وجهين: الأول ينطلق من تعبير «أرض المعاد» حيث تعتبر كلمة معاد مشتقة من فعل عاد، ويصبح معنى المصطلح الأرض التي يجب العودة إليها. والثاني ينطلق من تعبير «أرض الميعاد» حيث تعتبر كلمة ميعاد مشتقة من الفعل وعد، ويصبح معنى المصطلح الأرض التي وعد الإله يهوه إبراهيم بأن يعطيه إياها لتكون له ولنسله من بعده، وهي الأرض التي جدّد يهوه الوعد بها لذرية إبراهيم أيّ لحفيده، يعقوب إبن اسحق، الذي غيّر يهوه اسمه ليصبح إسرائيل، ثم عاد وأكدّ هذا الوعد لموسى ويشوع وكل بني إسرائيل الذين ولدوا للأسباط الإثني عشر، أي لأولاد يعقوب = إسرائيل الإثني عشر. وهاكم بعض الأمثلة التي جاءت في متن أسفار العهد القديم والتي وردت على لسان إله اليهود القبلي يهوه وفيها تحديد لهذه الأرض نقرأ من سفر التكوين: «وفي ذلك اليوم قطع الربّ (يهوه) مع أبرام (إبراهيم لاحقاً) عهداً، وقال: لنسلك أعطي هذه الأرض من نهر مصر الى النهر الكبير، نهر الفرات «تكوين 15:16 وبعد أن أختار يهوه موسى ليُنزل عليه الشريعة وينصره على المصريين الذين ظلموهم وسخّروهم، حسب الأسطورة التوراتية، قال له: «إنيّ قد رأيت مذلّة شعبي الذي في مصر وسمعت صراخهم من أجل مسخّريهم. إنيّ علمت أوجاعهم، فنزلت لأنقذهم من أيدي المصريين وأصعدهم من تلك الأرض الى أرض جيّدة وواسعة، الى أرض تفيض لبناً وعسلاً. الى مكان الكنعانيين والحثيين والأموريين والفرزيين والحويين واليبوسيين خروج : 7-8.
إذن هذا الإله القبلي كان يعلم أنّ الأرض مسكونة من شعوب عديدة، ولو هو اكتفى بنصح «شعبه الخاص» أن يهرب من مصر ويدخل الى الأرض التي تفيض لبناً وعسلاً، بشكل سلمي ليعيش بين هذه الشعوب الحضارية، لما كان في ذلك غرابة، ولكن أن يقوم هذا الإله أولاً بالطلب الى موسى الاحتيال على المصريّين وسلبهم، وأن يُنزل بالمصريين الويلات كرمى لعيون شعبه الخاص، وأن يبلّغ موسى ثانياً بأن ملاكه سيسير أمام بني إسرائيل «ويجيء بك الى الأموريين والحثيين والفرزيين والكنعانيين والحويين واليبوسيين فأبيدهم» (خروج 23:23)، فإنّ هذا لا يُمكن أن يتقبّله عقل، لا لجهة أن يأمر هذا الإله شعبه بسرقة المصريين، ولا أن يطلب من ملاكه إبادة كلّ شعوب أرض كنعان. وهذا ما يؤكدّ أنّ هذا الإله ليس إلهاً كونياً، ولا هو الإله الذي دعانا كلّ من يسوع ومحمد الى عبادته، بل هو إله «محليّ محدود وشرس، عنيف ودموي» كما قال سيغموند فرويد في كتابه «موسى والتوحيد».
ويعود هذا الإله، بعد فعل الإبادة التي قرّر أن يقوم بها، الى إبلاغ موسى عن حدود الأرض التي قرّر ان يعطيها له ولشعبه المختار بعد إبادة أهلها، فإذا حدودها تبدأ من «بحر سوف (ألأحمر) الى بحر فلسطين ومن البّرية الى النهر» خروج 21:23. ويكرّر هذا «الربّ يهوه» كلامه لموسى قائلاً: «أصعد من هنا أنت والشعب الذي أصعدته من أرض مصر الى الأرض التي حلفت لإبراهيم وإسحق ويعقوب لنسلك أعطيها. وأنا أرسل أمامك ملاكاً وأطرد الكنعانيين والأموريين والحثيين والفرزيين والحويين واليبوسيين» خروج 33- 1-2. يبدو أنّ هذا الإله الذي يحلف للبشر، أي عكس ما أعتدنا أن نسمع به، أي البشر يحلفون بالله، على طرد شعوب كنعان دون سبب، حتى قبل أن تطأ أقدام العبريين هذه الأرض التي تفيض لبناً وعسلاً، أصرّ على تكرار الكلام ذاته تأكيداً على نيّته تشريد شعوب عديدة وإبادتها لكي يُرضي شعبه المختار، ويعيد هذا الكلام على مسامع موسى في سفر الخروج الاص
«أعرف عدوّك» 1
حاح الرابع والثلاثين: «ها أنا طارد من قدّامك الأموريين والكنعانيين والحثيين والفرزيين والحويين واليبوسيين. احترز من أن تقطع عهداً مع سكّان الأرض التي أنت آتٍ اليها لئلاّ يصيروا فخّاً في وسطك. بل تهدمون مذابحهم وتكسّرون أنصابهم وتقطعون سواريهم». 34: 11-12-13. وهنا نتساءل: إذا كان هذا الإله قد أخذ على نفسه مهمة طرد هذه الشعوب وإبادتها، فما الغاية من أمر موسى أن لا يقطع عهداً معهم، وهل يمكن إقامة العهد مع أموات أو مع من ترك أرضه مرغماً ورحل بعيداً عنها؟ ونتساءل أيضاً عن هدف هذا الإله الذي لم يرَ مانعاً ان يقتلع الشعب «الساكن في الأرض»، وهو شعب «معتّز والمدن حصينة عظيمة جداً» (عدد 28:13)، في الوقت الذي كانت معظم أرجاء الأرض غير مسكونة ومعمورة؟
وبناءً على أوامر الإله يهوه قال موسى لبني إسرائيل «الربّ إلهنا كلّمنا في حوريب قائلاً: «كفاكم قعود في هذا الجبل. تحوّلوا وارتحلوا وادخلوا جبل الأمّوريين وكلّ ما يليه من العربة والجبل والسهل والجنوب وساحل البحر أرض الكنعاني ولبنان الى النهر الكبير نهر الفرات» تثنية 1: 6-7. وهذا الإله أيضاً كان يعلم حق العلم بأنّ «الأرض التي حلف لآبائك إبراهيم وإسحق ويعقوب أن يعطيُك، الى مدن عظيمة جيدة لم تبنها وبيوت مملوءة كلّ خير لم تملأها وآبار محفورة لم تحفرها وكروم وزيتون لم تغرسها» تثية 6: 11:10، وبالرغم من ذلك أصرّ على منحها الى من سمّاهم شعبه الخاص، وهذا يعني أنّ هذا الإله هو خاص بشعب واحد وليس إله الكون، وبالتالي أوامره ووصاياه محصورة بهذا الشعب وبقية الشعوب غير مُلزمة بها. وقد أكمل هذا «الربّ الإله» القبلي الخاص ببني إسرائيل مخططه، أو قل مخطط كتّاب أسفار التوراة الأسطورية، فأبلغ يشوع بن نون بعد موت موسى أن «قم أعبر هذا الأردن أنت وكلّ هذا الشعب الى الأرض التي أنا معطيها لهم أي لبني إسرائيل. كلّ موضع تدوسه بطون أقدامكم لكم أعطيته كما كلّمت موسى، من البريّة ولبنان هذا الى النهر الكبير ونهر الفرات جميع أرض الحثيين والى البحر الكبير نحو مغرب الشمس يكون تخمكم «، يشوع : 1: 2-3-4.
فاذا كان إله إسرائيل قد وهبهم أرضنا كلّها، وأمرهم بقتلنا وطردنا وتشريدنا، وإذا كان بنو إسرائيل قد زرعوا في نفوس أجيالهم هذه الغاية الى ان تحققت لهم بعد ألفي سنة من هروبهم منها استناداً الى إيديولوجية دينية عنصرية متحجرة، ألا يحق لنا أن نعتبرهم أعداء لأمتنا ولمستقبلها وعزتها وكرامتها؟ ولكي نستطيع المواجهة والصمود أليس علينا ان نتعّرف الى ماهية عقيدتهم وتفكيرهم ومخططاتهم؟ لا يمكننا التشبث بحّقنا إلاّ إذا عرفنا عدونا.