تريثوا… الحكم في آخر الجلسة
} د. قاسم حدرج*
انقسمت الآراء بالامس حول كلمة الرئيس دياب ما بين منتقد الى حدّ التطاول على قاعدة لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً، والى متفائل حدّ المبالغة على قاعدة انّ دياب ذو القرنين الذي سيبني بينهم وبين القوم سداً، وقد وصل الأمر ببعضهم لأن يقول نقلاً عن سماحة السيد إنه قال بأنّ أداء دياب فاق حدّ توقعاته، وهو ما أشكّك بصحته لاعتبارات عديدة سترد في سياق هذا المقال.
أما أنا فلا أميل لأيّ من الرأيين فلا أنتقد موقفه ولا أصفق له، بل أعتبر ما قام به هو خطوة في الطريق الصحيح ويتوقف تقييمها سلباً او إيجاباً على ما يستتبعها من خطوات، فلا يكفي أن ترى الصياد وقد جهّز كلّ أدواته لكي تهيّئ لحفلة الشواء، بل عليك أن تنتظر نجاحه في التصويب على الفريسة ونجاحه في اصطيادها…
وبالعودة الى قرار دياب والتحفظات على المبالغة في تقييمه، فهذا يأتي انطلاقاً من مجموعة معطيات هي على الشكل التالي:
اولاً انّ القرار لم يأت انطلاقاً من دراسة مالية اقتصادية أعدّها دياب وفريقه الحكومي أقنع بها الفريق السياسي الداعم للقرار، بل على العكس فإنّ موقف دياب المعلن كان هو ضرورة دفع المستحقات كي لا تتأثر سمعة لبنان المالية في حين انّ الفريق السياسي الذي أعطى الثقة لدياب كان دعمه مشروطاً باتخاذ قرار عدم الدفع، ولا يغيّر من هذه الحقيقة اختيار دياب لعبارة وسط ما بين الدفع وعدم الدفع وهي التعليق مع افتقاد هذه العبارة لأيّ مضمون قانوني أو مفاعيل تنفيذية ما لم يوافق عليها الطرف الآخر.
وقيمتها الوحيدة هي أنها تترك الباب مفتوحاً أمام التسديد ولا تعلن صراحة بأنّ لبنان ممتنع عن التسديد بشكل نهائي ولكنها لا تغيّر من واقعه القانوني بوصفه متعثراً، وان الأمور مشروطة بموافقة الطرف الآخر .
ثانياً انّ موقف حكومة دياب انطلق من قاعدة انّ الحكومة ستفي بالتزاماتها بالاعتماد على الخطط الاقتصادية المستقبلية والتي تعتمد بمعظمها على المساعدات التي سيتلقاها لبنان من المجتمعين الدولي والعربي، وهو أمر غير مضمون وخاضع للمتغيّرات السياسية ولما قد يطلبونه من أثمان قد لا نرضى بدفعها، خاصة انّ موقفنا من صندوق النقد الدولي وشروطه معروفة سلفاً، وبالتالي كان على دياب أن يعلن بأنّ التعليق سيكون لحين انتهاء القضاء من تحقيقاته حول مسؤولية المصارف عن الأزمة التي وضع فيها لبنان بسبب سياساتهم المريبة وتحويلهم الأموال أثناء فترة الريبة، وعرضهم السندات في سوق التحوّط والتفريط بها لصالح صندوق أشمور واضعين لبنان تحت رحمته، خاصة أنّ القضاء كان قبل ساعات قد وضع رقاب هذه المصارف تحت المقصلة القضائية،
مما يؤكد انهم مرتكبون وعليهم ان يتحمّلوا المسؤولية.
ثالثاً كان على دياب قبل دغدغة مشاعر صغار المودعين بالحفاظ على ودائعهم، كان عليه ان يعلن خطة الـ headcut لكبار الناهبين، وان يطلق يد القضاء لاتخاذ قرارات منع تصرف بحق العديد من الشخصيات التي تولت مناصب في الشأن العام، وذلك بالاستناد الى قانون الإثراء الغير مشروع تمهيداً لعرض تسويات مالية عليهم لإعادة جزء من الأموال التي نهبوها وأثروا من خلالها على حساب المواطنين، والتي أوصلتنا الى ما وصلنا اليه.
أما عبارات الشعر والزجل حول لبنان العظيم فهي لا تطعم خبزاً. ولن يقنعنا دياب بكلّ خططه المستقبلية مهما كانت دقيقة وعلمية ما لم تسبقها إجراءات عملية سريعة، فالذي لا يملك ضربة فأسه لا يملك قرار رأسه، وعليه ان يقطع أولاً شجرة الفساد قبل ان يزرع شجرة الإصلاح .
أخيراً نقول للرئيس دياب بأنه لدينا ثقة بوطنيتك وبحسن نيتك وبعلمك ومصداقيتك… وهذا كله يمكّنك من ان تعبر نهراً صغيراً، ولكن من المستحيل عليك ان تعبر المحيط سباحة، وعليك ان تحسم الأمور الصغيرة قبل أن تكبر وتعجز عن مواجهتها، وولّي وجهك قبلة الناس وهمومهم اليومية وأعطهم جرعة الأمل ليكونوا لك عوناً في تنفيذ خططك المستقبلية، ولتكن البداية من المافيات المتلاعبة بقوتهم اليومي، ولا تدعهم يروا جزّاريهم يتنقلون بينهم بمواكبات أمنية وبمنأى عن المحاسبة القضائية، ولا تراهن على ان يرتدع هؤلاء الفاسدون السارقون من تلقاء أنفسهم إحساساً منهم بحراجة الوضع المالي، فمهما قدّمت للذئب من طعام سيبقى يحنّ الى الغابة.
لا تبكروا بالحكم على دياب… فشيئان يحدّدان من أنت.. صبرك عندما لا تملك شيئاً وأخلاقك عندما تمتلك كلّ شيء، ودياب ما زال في مرحلة من لا يملك شيئاً فلتتريّثوا… ودعوا الرجل يعمل، والحكم آخر الجلسة.
*مستشار في القانون الدولي