الحفرة
} رشا علي
كان الجو كئيبًا كعادته في شهر يناير وكأنّه في حدادٍ على شمس صيفه الّتي فارقها بالأمس، والمساء حزيناً وشاحباً كفراق العاشقين، أمّا السّماء ملجأ كل الضعفاء فكانت أيضًا سوداء مكفهرة والغيوم متلبّدة محتبسة بالشجن.
وبينما كان البرد ينخرُ عظام الفقراء بجبروته ويلطم وجه المارّة بصفعاتٍ مؤلمة، لم أكن أشعر بأطرافي رغم كثرة الملابس الّتي كانت تلتحم بجسدي والقفازين المؤازرين لأصابعي، غير أن التناقض الرّهيب الذي كان يعشعش داخلي كان أشبه بكومة حُطامٍ أُضرمت نيرانها على شرف الانتقام مني.
خرجتُ أمشي بخطىً مرتجفة من المقهى الذي آثرنا أنا وأصدقائي السّهر به حتّى الصباح منذ سنواتٍ طويلة،
ذلك المقهى الذي حفظ شامات وجهي وسيرتي الذاتية أكثر من أمي وأبي.
كانت عقارب الساعة تلتهم الوقت بنهمٍ شديد وتشرف على الغرق في أجندة الماضي، لا شيء يذكرني بالأيام غير هذه الساعة البالية المهترئة بالذكريات.
خرجتُ والأفكار تتخبط داخل رأسي وتردّد صداها وكأنّها في محيطٍ ناءٍ.
شيءٌ ما داخلي كنت أعجز عن تفسيره، الضياع والتشتت والضجر الذي كان يعتريني جعلني أجهل تفاصيل الزمان والمكان.
جلستُ على حافة رصيفٍ تبكي الإهمال المتكرر من الحكومة وأشعلتُ سيجارةً عميقةً بالأفكار وتلذّذت بقتلها سريعاً، ثمّ أشعلت أخرى وجعلت موتها أبطأ بقليلٍ من سابقتها.
لم أشعر بسُمِّ النيكوتين يسري داخل عروقي رغم السيجارة الثالثة والرّابعة الّتي دفنتها داخل رئتيّ.
كثير من الاستهتار واللا مبالاة كان يغزو فكري.
المطر..
بكت السماء فجأةً وصبّت شجونها دفعةً واحدة فوق رأسي المثقل بالأفكار والفوضى، فهممّتُ مسرعاً لإيقاف سيارة أجرة تقلّني إلى المنزل غير البعيد كثيراً وجعلتُ يدي أسفل ذقني شارداً بالموشح الكبير الذي ينتظرني يومياً.
أبي الجالس على أريكة القرن الماضي، العاقد الحاجبين مذ وُلد، المستنفر دائماً حتّى من الذباب الذي يزور أذنيه فصلاً كل عام.
أبي الذي كان ينتظرني يومياً ليكللّني بشعاراته الرّنانة قبل أن يذهب للنوم مرتاح البال.
وكان من عادته أن تكون سبابته موجّهةً نحوي وكأنّها طلقٌ ناريّ، لكن الرّصاص للحقيقة كان يخرج من فمه، إذ لطالما قال لي:
«أنت شخصٌ ضالّ، مهمِل، غير مبالٍ وغير مسؤول»
«عمرك ثلاثون عامًا وتتصرف كالأطفال»..
«لا خير فيك مذ أنجبتك.. أنت عالة على قلبي وعلى المجتمع»..
وغيرها الكثير من العبارات المحطّمة.
المفتاح
وضعتُ المفتاح في قفل الباب بهدوءٍ تامٍّ على أمل أن أتسلّل إلى غرفتي دون ضجيجٍ آخر يبطش بي، لكن لا جدوى من شيءٍ أفعله أو أخطط له.
كان أبي قد سبقني ووضع مفتاحه في الجهة المقابلة للقفل كي يحبط محاولتي في التسلّل.
لجأتُ إلى خطةٍ ثانيةٍ كي أنجو ولو مرةٍ واحدة في حياتي من التوبيخ المؤذي فأرسلتُ رسالةً إلى أختي:
«إسراء.. افتحي لي الباب من فضلك، أنا في الخارج».
جاءني الرّد باردًا وجافًا وقاسيًا كصقيع أفئدة الحكام
«أخي.. ليتني أستطيع، فأبي لا يزال مستيقظًا ينتظرك في الصالون».
تنهدتُ وتنفستُ الصعداء بعد أن كززتُ على أسناني لكظم غيظي إزاء فشل محاولاتي.
طرقتُ الباب طرقةً صغيرة وهادئة، وطأطأت رأسي نحو الأسفل متجنبًا النظر في أيّ أحد، لكن لم أدرِ ما الذي جعلني أرفع رأسي لأنظر، كان وجه أبي شاحبًا وعذبًا في آنٍ معًا والهدوء والسكينة تحتضن عينيه، كما لم أرها من قبل..
ذهبتُ مسرعًا نحو غرفتي والحيرة تسأل نفسها وتسألني:
«لماذا لم يوبّخني هذه الليلة؟!».
«لماذا اكتفى بنظرة الشفقة تلك الّتي أكلت وجهي ومزقت فؤادي؟!».
لكنني لم أكن بحاجة إلى المزيد من الأفكار فيكفيني ما يغزونني منها، لذلك استلقيتُ على سريري غير مبالٍ بما رأيت، ووضعتُ سماعة أذنيّ ضاغطًا الزر بصوتٍ مرتفعٍ على أكثر الموسيقى إزعاجًا وإيلامًا للرّوح.
رحتُ أعرض شريط نهاري وأتذكر أيّ شيءٍ مفيد كان قد حصل معي ولم أجد، لم أجد شيئًا واحدًا ذا قيمةً للأسف.
الحفرة
بدأت الموسيقى تسري فيّ وتأخذني إلى عالمها شيئًا فشيئًا، ورغم ضجيجها الكبير وإيقاعها السّمج إلّا أنّها كانت ترفعني نحو الغيم وتنقلني من غيمةٍ إلى أخرى وسط زرقةٍ لا نراها إلّا في الرّسوم المتحركة، أحببتُ لعبة التنقل بين الغيم، ولم أكن أدري أن هذه الغيوم الخفيفة كالقطن ما كانت لتستوعبَ وزني الثقيل. فغدرت بي. غدرت بي ورمتني أرضاً إلى حفرةٍ مظلمة انغلقت أبوابها فجأةً.
ولأنّ حكمة الله كبيرة وعظيمة في خلقه لم يتطلب الأمر سوى جزءٍ من الثانية كي ترسل حواسي إلى دماغي إشارةً لاستيعاب ما حدث.
فأنا ما عدتُ أتنقل فرحًا بين الغيوم كطفلٍ لاهٍ، وإنّما سقطتُ أرضًا في حفرةٍ لا أدرِ ماهيتها.
رفعتُ يدي بكامل قواي للنهوض؛ لكن شيئاً ما ضخمًا وعنيدًا كان يدفعني نحو الأسفل، حاولت مرةً أخرى ولم أفلح.
أخذ الخوف حينها يتقدّم نحوي مستفردًا بي، وبدأتْ ضربات قلبي تتسارع وتتزايد، والهواء يصعب عليّ التقاطه.
«ما الذي يجري هنا؟! كيف أنجو من هذا المستنقع المظلم؟!
كيف سقطتُ إلى هنا أصلًا؟!»
بدأتُ أصرخ وأصرخ وأصرخ لكن صوتي كان خافتًا ولم أسمعه حتّى أنا..، أدركتُ حينها أنّ الموت قد نال مني وظفر بي.
وهذه الحفرة المظلمة كانت عبارة عن ثلاثة أحرفٍ الأشدّ رهبةً في تاريخ اللّغة، قبر، إنّني في قبر..
لكن كيف.. ولماذا وماذا أفعل الآن؟! فأنا غير مستعدٍ له بتاتًا.
كانت كمية الذكريات الموجعة تتساقط بسرعةٍ كوخز الإبر.
تذكرتُ توبيخات أبي، دعوات أمي لي بالهداية والصلاة، بكاء القرآن في غرفتي بعدما طمستُ حروفه الكم الهائل من الغبار..
وصوت الأغاني الصاخبة الّتي كانت تعلو على صوت الآذان في كثيرٍ من الأحيان.
استهتاراتي.. معصيتي.. جبروتي وذنوبي، كل تلك كانت تتدافع بزحمةٍ أمام عينيّ..
وحدي اليوم معها في هذه الحفرة المخيفة، فمن سينصرني؟!
بقيتُ أختنق وأختنق والعرق يتصبّب مني كنهرٍ جارٍ،
وفجأةً علا صوت إمام الحيّ: اللّه أكبـر.. اللّه أكبر!
فتحت عيني بعد رحلةٍ مرّعبة، كان هاتفي مطفئًا رغم امتلاء بطاريته، وصوت الأذان يصدح في كل أرجاء الغرفة، كنت أرتجف من فرط الهلع.
عرفتُ أن أبي يستعدّ للصلاة والذهاب إلى المسجد القريب من الحيّ، توضّأتُ ولحقتُ به، مشيت أهرول خلفه ووضعت كفّ يدي داخل كفه المحمرّ الدافئ فضغط بقوة وشدّ عليه ومضيت معه كطفلٍ ضائعٍ وجد أمانه.
مشيتُ مستغفرًا أسأل نفسي:
هل كان أبي شديدًا وظالمًا طوال حياته؟!
أمّ أنني أنا مَن كنت قبرًا للظلم..؟!