سيرة الكاتب التشيلي روبرتو بولانيو في حوارات… أدب منجذب إلى العالم السفليّ
عام 2003 توفى الروائي والقاص والشاعر وكاتب المقالات التشيلي روبرتو بولانيو عن خمسين عاماً في مستشفى في إسبانيا كان ينتظر دوره فيه لزرع كبد. ومنذ وفاته ارتفعت أسهمه، حتى بات الآن في مقام الوثن الأدبي المعبود. واعتبرت روايته الصادرة بعد وفاته تحت عنوان «2666» بمثابة تحفة أدبية منذ صدورها بالإسبانية عام 2004. وتتألف الرواية من غابة محيّرة من الاستطرادات، وتدور حول سلسلة من حوادث الاغتيالات الواقعية التي شهدتها الحدود المكسيكية الأميركية في التسعينات. ويقع في مركز الرواية كاتب ملغز يدعى بينو أشيمبولدي يحمل جائزة نوبل ولا يبدو أن أحداً يعرف له مكاناً أو شكلاً. لدى بولانيو نفسه مثل هذا الغموض. كان اجتماعياً، بيد أنه كان انطوائياً في الوقت نفسه، وكان بطبيعته نبيلاً، غير أنه كان يبدو مع ذلك «مضطرب العقل» حين ينشد الأغاني المكسيكية الشعبية مع أصدقائه في إسبانيا. وكاتب من هذا النوع يبدو صيداً صعباً لكتّاب السير الذاتية، لكن الصحافية الأرجنتينية مونيكا مارستين تصدت للتحدي وأصدرت كتابها عن بولانيو تحت عنوان «سيرة روبرتو بولانميا في حوارات». إلاّ أنّ كارولينا لوبيز زوجة بولانية ـ إسبانية المولد عاشت مع بولانيو لنحو ثلاثين عاماً ـ رفضت أن تتكلم عنه لرغبتها على الأرجح في الحفاظ على ما يلفّ زوجها الراحل من غموض.
اليوم، بعد إحدى عشرة سنة من وفاته، تحيط بولانيو هالة من الإعجاب، إذ يكنّ قرّاء كثر تفانياً متوهجاً لكتبه، إلى حد مقارنتها مع بعض أعمال الأرجنتيني الكبير خورخي لويس بورخس. وكان بورخس مقلاً للغاية، في حين أن لبولانيو إنتاجاً غزيراً مثيراً للجنون بما فيه من طاقة وحس وكوميدي.
ولد بولانيو في تشيلي عام 1953 لأبوين ينتميان إلى الطبقة الوسطى، وكان يعاني صعوبات في التعلم ويتعرض للقهر من زملائه في المدرسة، لكن ذلك كله لم يعق موهبته الأدبية. انتقل والده الذي كان يعمل سائق شاحنة وملاكماً أيضاً ووالدته المعلمة إلى مكسيكو سيتي مصطحبين ولدهما الضعيف عام 1968 وكان الولد في الخامسة عشرة. وكانت الستينات حقبة غليان في أميركا اللاتينية، إذ وقّع طلبة الجامعة أسرى دعوة تشي غيفارا إلى الثورة والتظاهرات. تشرين الأول 1968، وفي حي تاتيلولكو في مكسيكو سيتي، أطلقت القوات الحكومية الرصاص فقتلت ثلاثمئة طالب ومدنيين آخرين، فاستلهم بولانيو من تلك الواقعة روايته القصيرة الاستعارية الرائعة الصادرة عام 1999 تحت عنوان «التعويذة»، وهي مزيج من رواية الرعب والرواية البوليسية والسيرة الذاتية. وبحسب الشاعر المكسيكي خوسيه ماريا اسبينازا، رفض بولانيو يوم كان طالباً في مكسيكو سيتي «الواقعية السحرية» المرتبطة بغبريال غارثيا ماركيز وكولومبيا أواخر الستينات، واختط لنفسه مساراً أشد صرامة وسوداوية.
عثرت روايته «الأدب النازي في الأميركيتين» الصادرة عام 1996 على الكوميديا الكئيبة في ظلال الإيديولوجيا المناصرة للنازية في القارة. وكانت روايته «ليل في تشيلي» 2000 نوعاً من «الواقعية الراديكالية الساخرة الغريبة» بحسب أحد النقاد الإسبان فتميزت بصورة لافتة عن أدب ماركيز.
انجذب بولانيو في شبابه إلى العالم السفلي في مكسيكو سيتي، بما فيه من ملاه ليلية وجرائم، وكان قارئاً نهماً للعديد من كتّاب أدب الجريمة، وتوافر له من موهبته القصصية وذكائه الحاد ونثره الطيع ما جعله لاحقاً يستهين بالكتاب الأميركيين اللاتينيين الأدنى منه بحسب ما كان يرى ومن أولئك الكاتبة التشيلية إيزابل أليندي التي تقول عنه في هذا الكتاب إنه «كان شخصاً كريهاً» ولاذعاً جداً.
لم يتسن للصحافية الأرجنتينية مونيكا مارستين الاطلاع على أوراق بولانيو، فكشفت عن بولانيو الحقيقي من خلال سلسلة من الحوارات أجرتها مع ناشريه وحبيباته السابقات وطلابه ومنافسيه. ورغم أن كتاب ماريستين يقول الكثير عن بولانيو وموقعه في أدب أميركا اللاتينية، إلا أنه يبدو في نهاية المطاف أقرب إلى تخطيط بالأبيض والأسود ينتظر مرحلة التلوين. فرغم ما فيه من رؤى عميقة لبولانيو وعقله وأدبه، إلا أنه لا يزيد على كونه مقالة تفسيرية تشرح الحوار الذي أجرته الصحافية مع بولانيو قبيل وفاته ونشر في «بلاي بوي مكسيكو». ولا تغيب أرملة بولانيو وحدها عن الكتاب، بل يغيب ولداه لوتيرو وألكسندرا اللذان لم يهتما على ما يبدو بحوارات ماريستين. وأمر حسن أن قرر أولئك جميعاً الابتعاد، لتبقى روايات بولانيو وحدها في الصدارة، وهي تكفي.