يُتوّج الرفيق عادل زيدان ديوانه الشعري بسيرة ذاتية احتلّت الصفحات (1-62) وفيها معلومات شائقة عن عصاميّة ملفتة أدّت إلى نجاحه الاقتصادي، ومعلومات جيدة عن الحضور القومي الاجتماعي في عدد من البلدان الأفريقية.
إذ ننشر معظم ما جاء في السيرة الذاتية، كما وردت في الديوان، نأمل من رفقاء آخرين وردت اسماؤهم و او عرفوا الرفيق عادل زيدان ان يكتبوا لنا ما يفيد تاريخ الحزب.
* * *
في خاطري منذ الطفولة صورة ولد يعتلي منبر مدرسة القرية في نهاية السنة المدرسيّة ويُلقي شعراً بالفرنسية حفظه عن ظهر قلب، وترجمته:
أنا ديكٌ فريدٌ في الديوكِ
لي التاج المعلّى كالملوكِ
أصيح معَ الصباح بكلّ عزمٍ
وأعلن طلعةَ الفجرِ الضحوكِ
ثمّ ينتقل من مدرسة القرية إلى المدارس المجاورة فتتكاثر عليه الدروس، وأكثرها محفوظات وأشعار وطنيّة، كالنشيد الوطني الذي ننشده قبل الدخول إلى الصفوف، ونشيدٌ آخر كثيراً ما كنّا نردّده ونغنّيه.
الجندي يخــــدم أمّتَـــــــــه
وحياةُ الأمّةِ في الجندي
ولكثرة ما كنتُ أردّد هذه الأشعار بصوت مرتفع، شاركني في حفظها على الإيقاع أخوتي، وهم أصغر مني، وقد أصبحَتْ عندهم لحناً وإيقاعاً أكثر منها استيعاباً، وكثيراً ما كانوا يضيفون من عندياتهم لغة وألفاظاً، هم أدرى منّي بمعانيها.
لقد رافقني الشعر منذ الحداثة، وعشّش في خاطري حتى أنّي أصبحت أدرك الخطأ الشعري قبل اطّلاعي على بحور الشعر وموازينه، الأمر الذي تبيّن لنا في الصفوف العليا من مراحل الدراسة.
وقد رافقني الإيقاع الشعري الصحيح في مراحل دراستي المتقدّمة، فكنتُ أشترك في مسابقات الإلقاء، وكان إلقائي جيداً وجريئاً لا غبار عليه، حتى أنّي ألقيت كلمة المتخرّجين في صيف 1945 عندما تخرّجنا كأوّل دفعة لصف الفلسفة في الكلية الداودية.
وبعد تخرّجي من الكلية الداودية، علّمتُ فيها سنتين، ثمّ انتقلت للتدريس في الكليّة العلمانية الفرنسية (Lycee) في بيروت، وتسجّلت في معهد الحقوق في الجامعة اليسوعية.
وفي نفس الوقت، عملتُ في الصحافة وكنتُ أراسل جريدة «البيان» في نيويورك، التي كان يصدرها قريبي المحامي إبراهيم شقير. فكنت أزوّد جريدة البيان برسالة أسبوعيّة فيها ملخّص عن أخبار لبنان وما يدور فيه من أحداث!
وفي بيروت، كنتُ أنشر بعض بداياتي الشعرية في جريدة «كلّ شيء» للأخ سعيد سربيه، رحمه الله، وللأستاذ الكبير محمد البعلبكي نقيب الصحافة في لبنان أطال الله بعمره، وكان ذلك في أواخر الأربعينات.
وفي مطلع 1950 قرّرت الاغتراب إلى أفريقيا الغربية، وكان لي عمّ في ليبيريا وقد اغترب إليها منذ سنوات، فاستشرت الصديق النبيل الدكتور جبور عبد النور وكان رئيساً للدائرة العربية التي أدرّس فيها في «الليسيه»، فنصحني بأن لا أعتمد على الوظيفة والتعليم «فأكثر شباب لبنان معلمين والقسم الباقي محامين»، (وأخبرني) أنّه بعد عشرين سنة في التعليم لو توفّر له السفر لما تردّد في الإقدام عليه، لذلك أخذت بنصحه واتّكلت على الله!
لم يكن السفر في تلك الأيام يسيراً مثل اليوم، ففي أواخر صيف 1950 حجزت على طائرة Pan American التي كانت تغادر من مطار دمشق، فذهبت برفقة بعض الأقارب والأصحاب إلى الشام، ومنها استقلّيت الطائرة إلى مدينة دكار، حيث نقلتنا إلى منروفيا طائرة صغيرة ذات محرّكين، وكانت رحلتنا طويلة ومتعبة، وقد التقيت في «منروفيا» بأصحاب كُثُر وأقارب أعزّاء، منهم آل يونس ورسامني وعريضي وسعد وريدان، وهم من وجهاء الجالية اللبنانية ومن أوائل المغتربين القدامى في ليبيريا.
« نزلت في ضيافة أحد الاصدقاء، على أن أنتقل بعد يوم أو يومين في طائرة أحد المبشّرين الأميركان وبرفقة الرجل الكريم السيد «نسيب يونس» من منروفيا إلى «كيب بلمس» حيث اجتمع بالعمّ «أبي عفيف»، وكان السيد «نسيب يونس» ذاهباً إلى «كيب بلمس» لتفقّد أحد الفروع التجارية التي أنشأها في تلك المنطقة، فكانت لي مصادفة حلوة وهي خير من ميعاد.
وفي صبيحة اليوم التالي لوصولي إلى منروفيا، توقّفت سيارة السيد «نسيب يونس» أمام البيت الذي كنت في ضيافته، فودّعت السيد «أمين سعد» شاكراً وتوجّهنا إلى طائرة المبشّر التي ستنقلنا إلى «كيب بلمس».
لم يكن المطار بعيداً عن المدينة، وما أن أشرفنا على مدرج المطار حتى شاهدنا طائرة صغيرة رابضة عند أوّله، وإلى جانبها رجل طويل القامة مشغول بتفقّد عجلاتها، وعندما تنبّه لوصولنا رحّب بنا وفتح لنا باب الطائرة، فصعدنا إليها ونحن مأخوذين، وخاصة أنا، بهذه الطائرة التي لا تتّسع لأكثر من ثلاثة أشخاص مع سائقها، والتي ستقطع بنا هذه المسافة الشاسعة بين «منروفيا» و»كيب بالماس»، ولكن ليس هنالك من خيار آخر، وكان مشجّعي الأكبر هذا الرجل النبيل الذي وفرّ الله لي رفقته في هذه الرحلة.
وأخذ انتباهي وأنا في قلقي هذا حركة من كابتن الطائرة، فبعد ارتياحه لصعودنا إلى الطائرة ونقل حقائبنا إليها وقف أمام «فراش» الطائرة الأمامي وبرمه برمة قويّة، فدار محرّك الطائرة ثم قفز إلى مقعد القيادة فأغلق باب الطائرة واطمأنّ إلى وضعنا، ثم أخذ في ابتهال وصلاة أخذتنا معه بموجة من الإيمان رفعتنا إلى السماء قبل أن نرتفع عن الأرض. تحرّكت الطائرة نحو المدرج وكان (مايسن) المبشّر كلّما زادت سرعة الطائرة ازداد في المدرج، وكان (مايسن) المبشّر كلما زادت سرعة الطائرة ازداد في سرعة صلاته وارتفاع صوته، وقد أخذنا معه في هذا الجو من الإيمان، وما هي إلّا دقائق حتى وجدنا أنفسنا نحلّق فوق مياه المحيط تنساب بنا هذه الطائرة الكرتونية فوق شواطئ ليبيريا الذهبية حيناً والبيضاء حيناً آخر، وفوق غاباتها البكر الخضراء التي تمتدّ وتتمادى حتى يتعب منها النظر. فليبيريا معروفة باتّساع أراضيها وقلّة عدد سكانها، حتى أُطلق عليها اسم Green Land (الأرض الخضراء). وبعد ساعة من الطيران تقريباً وصلنا فوق قرية تُدعى باسا Bassa مأهولة وموقعها قريب من شركات الكاوتشوك ومزارعها مثل الفيرستون وغيرها، وأكثر سكان هذه القرى يعملون مع شركات الكاوتشوك وقد فتحت لهم الإرساليات الأميركية كنائس ومدارس، فأنقذت منهم الكثيرين. حوّمت الطائرة فوق هذه القرية، وقد كانت كلّما حوّمت مرة تقترب بنا من الأرض وتظهر لنا البيوت ال/اهولة أكثر وضوحاً، وعندما أصبحت الطائرة فوق ملعب الكنيسة ألقى المبشّر لمن ينتظرونه على الأرض بكيس فيه البريد العائد لأفراد هذا الفرع من الإرساليّة».
«ارتاح بال كابتن الرحلة، فودّع رفاقه على الأرض بدورة أخيرة، وتابعنا التحليق على ارتفاعنا المعهود حتى وصلنا فوق محطة ثانية تُدعى ساينو، فقد ألقت الطائرة إليها كيساً آخر فيه البريد القادم إليهم من العاصمة منروفيا، وأكملنا الرحلة إلى Cape Palmas، وهذه البلدة تقع على الحدود بين ليبيريا وساحل العاج، والذي يفصل بينهما نهر كبير يُدعى Cavalla.
في «كيب بلمس» التقيتُ عمّي وبعض الأقارب من عائلة العريضي (عجاج ومنها العريضي وأخوتهم)، والتقيت الأخ الأعز فايز رسامني والصديق الصدوق حليم يونس، وكانت سعادتي كبيرة بلقاء شباب كُثُر منهم أصدقاء منذ أيام الدراسة في عبيه، فجمعتنا الغربة بهم من جديد، مثل الأخوان كامل وشفيق فرحات والأخ عارف ذبيان والأخوان حافظ إبراهيم وحسن مكارم(1) وأمين سريّ الدين(2).
بقيتُ في «كيب بالماس» مدة سنتين، وجدت بعدها أنّ تجارة المحاصيل الزراعية أقرب منالاً للربح، فقرّرت أن أترك «كيب بالماس» وأتوجّه نحو القرى الداخلية حيث محاصيل الكاكاو والبالم والقهوة والأرزّ.
وجدت الخير والبركة في هذا الانتقال، فبنيت عدّة محلات تجارية في الداخلية، وواحد منها قريب من مزارع الكاوتشوك لشركة الفيرستون، وكنت أجعل في كلّ محلّ شاباً ممّن أعرفهم أو أتعرّف بهم، وأجعل الأرباح مناصفة مع من يستلم هذا المحل أو ذاك. وكانت مشكلتنا الكبرى قضية الانتقال، فالطرق مهملة وقد تخرّبها السيول في فصل الشتاء، فاعتمدت في البداية على دراجة ناريّة كنت أتنقّل عليها من مكان إلى آخر، وعندما تحسّنت الطرقات اشتريت سيارة جيب ثم سيارة بيك أب لنقل المحاصيل ونقل مواد البناء حينما كنت أنشغل بين الموسم والآخر في بناء المحلات.
ومضت الأيام في رتابتها إلى مطلع السبعينات، فقد عرض عليّ الصديق الصدوق فايز رسامني(3) أن أنتقل إلى العاصمة منروفيا وأعمل في الصناعة، حيث أنّهم أخذوا بشراكة أحد المغتربين من «غانا» معملاً لأصناف «البلاستيك» المنزلية، وكان أصحابه يعانون أزمة اقتصادية ويرغبون في بيعه والتخلّص منه!
دخلت عالم الصناعة صفر اليدين إلّا من تجارب تجارية استمرّت بضع سنوات، جعلتني على علاقات جيدة بالسوق المحلية، ولكن الصناعة أوسع حدوداً من التجارة وأكثر مسؤولية من محلات صغيرة يقتصر تمويلها وإمدادها من مستودعات تجار الجملة المحليين وكلّها في متناول اليد عندما يحظى المرء بثقة الناس!
«وقيّض الله لي صديقاً صدوقاً آخر هو السيد عادل شجاع(4)، وكان مسؤولاً في شركة «رسامني أخوان» في منروفيا، فأخذ بيدي ووضع خبرته في تصرّفي. وكثيراً ما كنّا نصرف معاً عطلة الأسبوع في هذا المصنع إعداداً لطلبات المواد الأولية أو تصريفاً لبعض الأصناف التي نجد صعوبة في تصريفها – أو غربلة بعض الزبائن الذين نجد صعوبة في التعاون معهم، والشركات التي يجب الاتصال بها وبالمسؤولين فيها. ومضت شهور وشهور أخذت بعدها الاعتماد على نفسي وإيجاد المنافذ لتوسيع ثقافتي الصناعية إجمالاً والبلاستيكية خاصة، فاشتركت ببعض المجلات المتخصصة بصناعة البلاستيك وراسلت شركات المواد الأوليّة التي كانت تزوّدنا بنشراتها الدوريّة بشكل دائم. وبعد أربع سنوات من العمل الجاد، قرّر شركاء غانا ونيجيريا بيع المعمل لأسباب خاصة بهم، فأعطوني أفضلية الشراء. وكنتُ مقدّراً لهم هذه الثقة، فأقدمت على توقيع الأوراق الرسمية وجعلنا الأأقساط شهرية لمدّة سنتين، وهكذا تحوّل المعمل إلى مسؤوليّتي الكاملة، عندها أخذتُ أفكّر في توسيع هذا المعمل بعد أن كان لعشرات السنين الماضية يعمل بمكنات قديمة وأصبحت من مخلفات الماضي.
توجّهت إلى شركة الكولا في منروفيا وإلى شركة البيرة، وكانتا في حاجة إلى صناديق بلاستيكية لنقل إنتاجهم إلى السوق بعد أن كانتا تعتمدان على الصناديق الخشبية، وأخذت منهما كتاباً بأن نمدّهما بصناديق بلاستيكية وبالمواصفات التي يحتاجونها وبكميّات لا تقلّ عن مئتيّ ألف صندوق للسنوات الثلاث الأولى.
وبعد هذه الخطوة، تقدّمت من البنك الصناعي في منروفيا بطلب لتمويل هذه الصفقة، فتجاوب معي دون تردّد، خصوصاً بعد أن وفّرت له ضمانة من أحد كبار تجار ليبيريا هو الصديق الصدوق غسان خليفة.
بعد هاتين الخطوتَين، ذهبت إلى إيطاليا وابتعت مكنة مناسبة لصناعة الصناديق البلاستيكية، وكذلك أوصيت على القوالب المطلوبة بمواصفات مدير الإنتاج في شركة الكولا، والذي اجتمعت به في «ميلانو» ليرافق مراحل الإعداد لهذه الخطوة الهامّة بالنسبة لهم. وبعد المدّة الزمنيّة التي اتّفقنا عليها شُحِنَت المعدّات إلى ليبيريا، وبدأ الإنتاج الذي نال رضى الشركتَين وأصبحت تصلنا منهما طلبات الصناديق شهراً بعد الآخر، وأخذ الدم الجديد يجري في عروق هذا المعمل بعد أن تعاقبت على إدارته وجوه عديدة.
وبعد سنوات وسنوات تابعت تطوير هذا المعمل، وكنا نزيد في إنتاج الأصناف التي يحتاجها السوق، ثمّ هبّت الاضطرابات المشؤومة في ليبيريا سنة 1989 فأتت على كلّ ما بنيناه، ونهبت المصانع والمحلات التجارية خصوصاً، وتهدّدت الثورة أرواح الناس وتفرّق الأغراب وتهجر نصف مليون مواطن ليبيري إلى البلدان المجاورة مثل فريتاون وساحل العاج، وانطوت بذلك قصة اغترابنا المأساويّ الحزين.
* * *
مع الشعر والشعراء
بعد انتقالي إلى العاصمة «منروفيا» اتّسعت مسؤوليات العمل وزادت الصداقات والأنشطة الاجتماعية، فالجالية اللبنانية في منروفيا تُعدّ بالآلاف بينما عدد اللبنانيين في القرى البعيدة لا يتجاوز العشرات!
وإنّي أذكر مناسبة حلوة حدثت معي عندما كنت في الداخلية، فقد زارني الاقتصادي الكبير السيد أنيس البيبي، وكان مديراً لـ»بنك الاتحاد» في بيروت، وكان لهذا البنك فروعه في ليبيريا، وكنت أنا في الداخلية أتعامل معهم، وبعد التعارف دخلنا إلى صالون البيت المتواضع، فاسترعى انتباهه مكتبة صغيرة عليها بعض الكتب والمجلات المنسّقة وهي Reader’s Digest- National Geographic Magazine، ولم يكن يتوقع أن يرى بيتاً لبنانياً في غابات أفريقيا فيه مكتبة أو شبه مكتبة، فسألني: كيف جمعت هذه الكتب والمجلات، فأخبرته أنّ الكتب نطلبها بواسطة الأهل والأصحاب من لبنان، وأمّا المجلات فأشترك فيها سنوياً وتأتيني في البريد، وهي رفيقتي ومؤنسي في هذه الغربة.
وتطوّر الحديث بيننا، فأخبرته كيف عالجنا جشع التجار وهوسهم في مواسم المحاصيل، وذلك بجمع ما نشتريه شهرياً من المزارعين بسعر واحد دون مضاربة، ثمّ نقسّم المجموع بالتساوي فيما بيننا وبذلك يتوفّر لنا أضعاف ما كنّا نكسبه في زمن الفوضى والمضاربات.
لنرجع إلى منروفيا، فقد كانت تلك السنين في منروفيا مرحلة ذهبية في حياتي، وكنت قد تزوّجت سنة 1960 وكانت زوجتي معي وأولادي، وكان في منروفيا مدرسة للجالية اللبنانية صفوفها حتى السرتيفيكا، وقد أُنشئت هذه المدرسة بهمّة واندفاع وجهاء الجالية اللبنانية، وفي مقدّمتهم رسامني أخوان – خليفة أخوان – جوزف أبو جودة – حفيظ أبو جودة – عادل شجاع وغيرهم كُثُر.
لقد وجدنا في هذه المدرسة ملاذاً لتعليم أولادنا أُسوة بأولاد الجالية، خصوصاً بعد أن تقدّمت زوجتي بطلب للتعليم في مدرسة الجالية وقُبِلت، فاستأجرت بيتاً قريباً من مدرسة الجالية ممّا جعل الأمور أكثر سهولة على زوجتي وأولادي في الذهاب والغياب.
وكان «نادي الأرز الاجتماعي» في بداية تكوينه وانطلاقته، وقد طرحت أسهمه بين أفراد الجالية، فمن اشترى أسهماً أصبح عضواً مؤسساً، ومن أحجم عن شراء الأسهم وبقي عضواً عادياً.
كان يدفع اشتراكاً سنوياً هو ضعف اشتراك العضو المؤسّس، وكان للنادي لجنة إدارية تنتخب من الأعضاء المؤسسين، فعملنا معاً على تطوير النادي وبناء مسبح كبير وملاعب لكرة السلة والتنس والكرة الطائرة، وأصبح النادي ملتقى أبناء الجالية في الآحاد وأيام الأعياد، وكثيراً ما أُقيمت فيه حفلات مدرسة الجالية والمناسبات الاجتماعية ورأس السنة وحفلات الفنانين والمطربين الذين يقصدون ليبيريا.
سهراتنا كانت تتمّ في أواخر الأسبوع أو في ليالي العطل الرسمية، حيث يعقد الشمل في بيت أحد الأصدقاء وكانت حلقاتنا معقودة اللواء على ديناميكية الأخ النشيط عادل شجاع، فهو الجندي المجهول في نشاطات الجالية الاجتماعية والفكرية والفنية، وكانت لنا صولات في الشعر والأدب والسياسة والاقتصاد والمال والأعمال، وكان نجوم ليالينا وحكماؤها الأخوان: حسن ريدان(5) – فؤاد خليفة(6) – فؤاد صعب(7) – محمد جابر(8)، رحمهم الله، وكلّهم ذوّاقة أدب وشعر ومعرفة، فكم قرأنا من قصائد الشعر في تلك الليالي، وكم هزّتنا وأثّرت فينا القصائد القومية والوطنية، وخاصة قصائد أدونيس من سجن المزة.
وفي مطلع الثمانينات، انتقلت زوجتي والأولاد إلى واشنطن لمتابعة دراستهم. وكنت في زيارتهم ذات يوم، وإذ بجارتنا في البناية السيدة المحترمة هيلدا سعيد والدة الدكتور إدوارد سعيد تتّصل بزوجتي على التلفون وتقول: «أمس استلمت من إدوارد قصيدة جديدة لنزار قباني «أطفال الحجارة»، وقد أرسلت لكم نسخة عنها أرجو أن تعجبكم». وما أن قرع الباب واستلمنا القصيدة من الخادمة، حتى تسابقنا عليها لأن ثقتنا بنزار كبيرة، ولا شكّ في أنّ اهتمام الست هيلدا بها وبنا هي كي لا تفوّت علينا روعة هذه القصيدة الجديدة! حتى أنّنا حفظناها وحفظها أولادنا معنا في فترة قصيرة.
وبعد رجوعي إلى منروفيا كتبت للشاعر الكبير نزار قباني أهنّئه على هذه القصيدة الرائعة التي ملأت نفوسنا عزّة وكرامة.
أجابني الشاعر الكبير يقول: «قلّما أُجيب على رسائل المحبّين وهم كُثُر، ولكنّي وجدتُ في رسالتك شيئاً استرعى اهتمامي، فأنا أعرف أنّ التجار ورجال الأعمال قلوبهم من البلاستك، ولكنّك أنت استثناء للقاعدة، فأجبتك على رسالتك وإنّي لأرجو منك كذا وكذا.
فرحت بجواب الشاعر الكبير، وبقيت أكتب إليه من وقت لآخر كلّما سمحت لي أوقات العمل!
كنت أرافق تطوّر الحركة الشعرية في لبنان قبل اغترابي، وكنت أقرأ وأتابع شعراء الحداثة وكان يغريني شعر سعيد عقل – ونازك الملائكة – وصلاح لبكي – وفؤاد سليمان – وفؤاد الخشن – وبدر شاكر السيّاب، وكانت مجلّة «الأديب» قبل مجلة شعر منبراً لأكثرهم وبوصلة أدبية يعتمدها محبّو الأدب والشعر خاصة. وبعد اغترابي أضعت الصديق الصدوق فؤاد الخشن، وأذكر أني قرأت له آخر ما قرأت «غابة الزيتون» و»أدونيس وعشتروت»، وقد نشرتهما له مجلة الأديب في تلك الايام. وكان أن سكنت بعد رجوعي من الغربة في منطقة «اليانار» التابعة لبلدة بشامون، وقد سعدت كثيراً عندما وجدت أنّ الشاعر الكبير فؤاد الخشن يسكن بالقرب مني فزرته مع زوجتي، وتجدّدت العلاقات العائلية فيما بيننا، وأخذنا نجمع حولنا الأصدقاء والمحبين.
* * *
من الديوان
وداع الأمين عادل شجاع
لــي في تُـــــــــرابكَ أخوةٌ أبــــــــرارُ
(لهم الخلود) وفي القلوب مزار
نشتاقهم فيعود طيب أريجهم
عَطِراً كما تتضوّعُ الأزهارُ
فالناس في هذه الحياة حدائقٌ
أعمالهم تبقى كما الاثمار
بورِكتِ يا عينَ العنوب وبورِكَت
فيكِ المكارمُ دومَ والأخيارُ
أبناؤكِ رفعوا مشاعلكِ التي
بقيت على بُعدِ المكانِ تُنارُ
* * *
نشتاقُ (عباساً) وأُنسَ حضورِهِ
ودماثةَ السفراءِ حينَ يُزارُ
في الخارجية كان نجماً ساطعاً
لم تُثنِهِ الأأزماتُ والاسفارُ
(وفؤادُ) كان حكيمَ كلّ صعوبةٍ
عَصَفت بنا فتبدّدَ الإعصارُ
والحُسْنُ في (حَسَنِ) الطباعِ ومرجعِ
الشاكي وممّن تكتويه النارُ
واليوم تفتقد العدالةُ (عادلاً)
فتغيبُ البسَماتُ والأنوارُ
* * *
يا راحلاً عشتَ الحياةَ مجاهداً
إنّ الكبارَ على الصعابِ كبارُ
قد كنتَ سبّاقاً على حلباتنا
أعطيتَ ما يُعطي الكريمُ لقومهِ
بسماحةِ المعطاءِ حين يُجارُ
في كلّ قلبٍ في وداعكَ غصَّةٌ
محروقةٌ وكأنّ فيها القارُ
أكمِل طريقكَ للنعيمِ وعِشْ به
تلقاكَ فيه الصفوةُ الأبرارُ
* * *
أبناءَ مدرسةِ الحياةِ تحيّة
لكم على مرّ الزمانِ مدارُ
أعطيتُم الوطن الجريح دماءكُم
وبعزمكم تتوالدُ الأقمارُ
دينَ المحبةِ والتآخي دينكُم
هذي الغراسُ وهذه الأثمارُ
* * *
هوامش:
1 – حسن مكارم: من رأس المتن. للإطلاع على النبذة المعمّمة عنه الدخول إلى الموقع www.ssnp.net
2 – أمين سريّ الدين: من بزبدين. أشرنا إليه أكثر من مرّة. نعدّ نبذة غنيّة عنه للنشر. مراجعة الموقع آنفاً.
3 – عادل شجاع: من عين عنوب، تولّآ مسؤوليات عديدة وصولاً إلى رئاسة مجلس العمد. مراجعة الموقع آنفاً.
4 – عماد خليفة: شقيق الرفقاء إيليا ورياض والشاعر فؤاد خليفة.
5 – حسن ريدان: من عين عنوب. شاعر وأديب. مُنح رتبة الأمانة. مراجعة الموقع المذكور آنفاً.
6 – فؤاد خليفة: شاعر، وتولّى مسؤوليات عديدة في الوطن وفي ليبيريا. مراجعة الموقع المذكور آنفاً.
7 – فؤاد صعب: من الشويفات. تولّى مسؤولية منفّذ عام في ليبيريا، و….. لجنة رئاسية للحزب السوري القومي الاجتماعي في الوطن. للإطلاع على النبذة المعمّمة عنه الدخول إلى الموقع المذكور آنفاً.
8 – محمد جابر: من النبطية، شارك في الثورة الانقلابية وحُكم عليه. مراجعة النبذة عنه على الموقع المذكور آنفاً.