نهاية الامبراطورية

روزانا رمال

منذ عشرين عاماً بالتمام والكمال بدأ صعود نجم امبراطورية عملاقة، تتقدّم خطوات ثابتة وواثقة بين الناس وتحوز إعجابهم وتقديرهم ومحبتهم، وشيئاً فشيئاً يحسّون أنها تشبههم فتصير هي لسان حالهم ومرجعهم، ويتوزع العرب بين ثلاثة أرباعهم معها وربع باق يتأثر بها ويقول فيها كلاماً بين الـ»مع» والـ»لكن»، من دون أن ينوجد من يجرؤ على قول الضدّ.

تفوّقت الامبراطوربة على نفسها مرات ومرات، وقدّمت نموذجاً أحرج كلّ من يقول أنه ليس بالإمكان أفضل مما كان، فأحرجت ما يعادلها وتخطت من تقدّم كبديل يحمل من الإبداع والجديد والجرأة ما يضعه في المقدمة.

صارت الامبراطورية عالمية حتى سجل لها انها أول إنجاز عربي منذ زمان طويل يعيد للعرب مكانة الأهلية على صناعة المتميّز والمختلف واللافت للانتباه.

خلال عشر سنوات كانت الامبراطورية قد تخطت بجمهورها ما حققه جمال عبد الناصر بعشرين سنة وصارت في كلّ بيت أكثر من مجرّد صورة على جدار بل صورة حية متحركة على مدار الساعة وليست مجرّد صوت في المناسبات بل أصوات يتردّد صداها كلّ ساعة وكلّ دقيقة.

تقدّمت بصفتها إعجازاً وإنجازاً وإبداعاً يشارك المقاومة هذه الصفات في تقديم العربي ككائن قادر على كسر الأقدار وتخطي المألوف الرتيب والفاشل.

تسنى للامبراطورية أن تُحسب مع المقاومة كإطارين غير حكوميّين يتقاسمان تحريك الرأي العام العربي، ويصنعان الأحداث، فيكتب عنها المفكرون الغربيون كأبرز تغيير في الواقع العربي خلال نصف قرن.

جاء الربيع العربي فكانت الامبراطورية جاهزة لتلعب الدور القيادي، وتقول ينزل الناس في شوارع القاهرة الخلفية، واحياء تونس الفقيرة، فيخرجون كرمى لعيونها لأنّ «الجزيرة» لا تكذب ولأنها هم ولأنها ما يتبعونه ويصدقون ويثقون.

جاءت الأزمة والحرب على سورية بعدما أطاحت الامبراطورية – «الجزيرة» حكام مصر وتونس وليبيا واليمن والشعب يصنع ثورته و»الجزيرة» هي الرأي والراي الآخر، القناة التي صنعت لأميرها وإمارته دوراً يهزّ حكاماً وحكومات لبلاد يعادل عدد سكانها ألف مرة سكان قطر الجزيرة وقناتها «الجزيرة» فصارت الإمارة حكومة وأميراً كأقزام يقفون على كتف عملاق هو قناة «الجزيرة» التي إنْ قالت للشيء كن فيكون، حتى صار الأمير يعيّن وزراء ورؤساء حكومات ويعطي الأوامر في مصر وتونس وسواهما وصولاً إلى الصخرة السورية.

اصطدمت الامبراطورية بالصخرة السورية، وتطاحنت معها فتوقف صعودها وبدأ وهجها بالتآكل وصدقيتها بالتلاشي حتى بدأت تسقط في عيون من أحبّوها وصنعوها ووثقوا بها.

بدأ رموز صنعت اسمها بهم ينسحبون قرفاً واحتجاجاً، وجمهور يقفل مكانها المحجوز لها وحدها على لائحة المفضّلة الأولى بين قنواته المميّزة، ووصل الغضب إلى مهاجمة مكاتبها من المتظاهرين ورشقها بالحجارة من الأردن إلى مصر وتونس واليمن.

لم يبق لـ«الجزيرة» ربع ما كان عندها من جمهور، وقد صارت صوت «الإخوان المسلمين» وجبهة «النصرة» وتنظيم «داعش».

تهاوت الامبراطورية وأمجادها وصارت الناس إنْ سمعت كذبة ما بلا دليل تقول كأكاذيب «الجزيرة»، لكنها بقيت واقفة على قدميْها بعناد المموّل والأمير الصغير الذي خلف والده حتى جاء وقت الحساب، فالإمارة التي صعدت على كتف «الجزيرة» تنفّخت وتورّمت وآن لها أن تستعيد حجمها وتتأدّب، فتقف خلف السعودية وبين يدي مصر، وتؤدّي فروض الولاء والطاعة، وأول الجزية هنا بدء تفكيك الامبراطورية، فما كاد يصل وزير خارجية قطر إلى القاهرة ويجتمع بالرئيس المصري حتى كان أحد التوائم التي تشكلت من جمعها الامبراطورية يلفظ أنفاسه.

الجزيرة مباشر المخصصة لمصر التي كان افتتاحها مؤشر بلوغ الامبراطورية ذروة أمجادها تقفل بقرار وتصمت.

مشتقات وتوائم ستلحق على الطريق، وتصير الامبراطورية مجرّد ذكرى كما تتذكّر الناس أسماء الماركات التي تعرّفوا من خلالها على سلع بعينها، فكما كانت أوراق المحارم أسمها «كلينكس» ربطاً باسم ماركة صاعدة، وصارت الأخبار التلفزيونية اسمها «الجزيرة» ستصير «الجزيرة» مثل شركة فورد التي كانت عنوان مطلع القرن الماضي في الدلالة على السيارة، فيقولون يمتلك فورد من نوع مرسيدس للدلالة على امتلاكه سيارة، وقد قالوا يمتلك جزيرة اسمها «الميادين» وصارت مرسيدس في المقدمة وفورد ذكرى.

الامبراطورية تدفن رأسها فيضمر الجسد وتودّع المسرح بعد الفضيحة.

حرب خاضتها «الجزيرة» وفشلت وهي تدفع ثمن الفشل ونصر استحقته سورية ثمرة تضحياتها، وكما رحل الأمير تترجّل «الجزيرة» بالمفرّق.

«توب نيوز»

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى