القدس تغيب عن القرار الفلسطيني- العربي في مجلس الأمن
راسم عبيدات
ارتكبت في حقّ القدس خطيئة كبرى في الاتفاق الانتقالي «أوسلو» بتأجيل مصيرها إلى المرحلة النهائية. وبعد مضي عشرين عاماً على الاتفاق، لا يزال الاحتلال يسابق الزمن ويسارع ويصعِّد من خطواته وإجراءاته وممارساته التهويدية والاستيطانية التي من شأنها أن تُخرج القدس من أي مفاوضات قادمة، حيث تمّ إغراقها بـ»تسونامي» استيطاني، ليس فقط من خلال جدار الفصل العنصري ولا الأحزمة الاستيطانية الخارجية، بل من خلال الأطواق الداخلية، فأقيمت المستوطنات في قلب الأحياء العربية لكي يجري تحويل المدينة إلى جزر فلسطينية متناثرة في محيط يهودي واسع.
واليوم وبعد أن بلغ السيل الزبا، وفي ظلّ الانتهاكات التي يرتكبها الاحتلال، يأمل المقدسيون من السلطة الفلسطينية أن تتوجه إلى المؤسسات الدولية للتصديق على ميثاق روما والحصول على العضوية في محكمة الجنايات الدولية لكي تعاقب الاحتلال على جرائمه وانتهاكاته في حقّ القدس والمقدسيين، بالاستيطان والاعتداء على الأقصى ومحاولة تدميره وإبعاد وطرد المقدسيين.
وبعد فشل المفاوضات وتوجه السلطة الفلسطينية إلى مجلس الأمن الدولي بعد طول مماطلة وتلكؤ ورهان على المفاوضات، قدّمت السلطة مشروعها باللون الأزرق إلى مجلس الأمن الدولي تاركةً الباب أمامه مفتوحاً للتعديل والشطب والإضافة والتغيير من دون سقف زمني.
إنّ التعديلات التي أُدخلت على المشروع نتيجة البازار التنازلي المسبق من قبل السلطة الفلسطينية المسكونة بتخطي حاجز «الفيتو» الأميركي والحصول على التسعة أصوات، جعلها تقدم تنازلات جوهرية مست قضايا جوهرية في المشروع الفلسطيني- العربي الذي جرى تجويفه من قبل الدول الغربية وعبر التهديد الأمريكي، ليصبح نسخة مطابقة للمشروع الفرنسي المقدَّم باسم الاتحاد الأوروبي، وربما بسقف أقل من ذلك، وهذا ما يعكس حالة هلع وخوف فلسطينيين، على مستوى القيادة، من الإدارة الأميركية، ولا يعكس إرادة فلسطينية تنوي المجابهة والصدام أو الخروج من خيار ونفق المفاوضات العبثية.
فالمشروع الفلسطيني تحدث عن القدس الشرقية كعاصمة للدولة الفلسطينية، والمشروع المعدَّل يتحدث عن القدس كعاصمة مشتركة للدولتين، وهذا ينطوي على مخاطر جدية وحقيقية ويستجيب للرؤية «الإسرائيلية» بأنّ القدس عاصمة الاحتلال الأبدية، وهذا النصّ يعني أن تكون العاصمة الفلسطينية في أي بلدة أو حي من أحياء القدس، وليس بالضرورة القدس الشرقية، مع سيطرة «إسرائيلية» إدارية على المدينة.
التنازل الآخر، فهو أنّ المشروع المعدَّل يتحدث عن مفاوضات تستند إلى حدود الرابع من حزيران عام 1967، وليس على أساس هذه الحدود، باعتبارها خطاً للترسيم، ما يفتح الباب رحباً مرة أخرى، لمشاريع تبادل الأراضي متعدّدة الأشكال والنسب المئوية، بدءاً بالحدود الدنيا من الأراضي كما يطالب الفلسطينيون وانتهاءً بمشروع ليبرمان الذي يتحدث عن تبادل إقليمي واسع للأراضي يشتمل على الأرض والسكان ويخلّص «إسرائيل» من 300 ألف مواطن فلسطيني من عرب 48، مقابل إعلان ضمّ المستوطنات الكبرى ومجالها الحيوي في الضفة والقدس.
أما التعديلات الأخرى، فليست أقل شأناً وأهمية من التعديلات السابقة، وقد تحدث المشروع العربي- الفلسطيني عن سقف زمني لإنهاء الاحتلال للأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967 في تشرين الثاني2016، ويتحدث التعديل عن عودة إلى المفاوضات لمدة عام، ومن ثم يجري الحديث عن إطار زمني مع نهاية2017. وهناك فرق جوهري بين تحديد سقف زمني لإنهاء الاحتلال وبين العودة إلى ملهاة المفاوضات من دون عقوبات أو قرارات ملزمة عقب انتهاء مدة التفاوض وعدم التزام «إسرائيل» بذلك، والمشروع البديل الذي ليس له علاقة بالمشروع الأصلي، يتحدث عن رعاية أميركية للمفاوضات، وليس رعاية دولية، ونحن جربنا وخبرنا جيداً ما أنتجته تلك الرعاية.
ومن التنازلات الأخرى المقدمة في النصّ المعدل، استبدال الاعتراف بالدولة الفلسطينية بعبارات تتحدث عن النية لهذا الاعتراف في المدى الزمني المقرّر لقيام هذه الدولة، أي على امتداد ثلاث سنوات، ما يعني أنّ التنازل الجوهري في موضوع القدس، قد دُفع مقدَّماً وكاملاً، فيما الحصول على الاعتراف ما زال مؤجلاً وعرضة للتقسيط والتسويف.
وإذا كانت الصورة تبدو كما شرحتُ في هذة المقالة، فما فائدة التوجه إلى مجلس الأمن الدولي والحصول على قرار منه بهذه الصورة، سوى أن يُضاف إلى أرشيف وأدراج الأمم المتحدة كغيره من القرارات السابقة التي لم ولن تجد طريقها إلى التنفيذ، والطامة الكبرى أنّ هناك من يهلل لمثل هذا القرار، وربما يعتبره نصراً مؤزَّراً يستدعي الاحتفالات والرقص في الشوارع، وهذا «النصر» يعفي الطرف الفلسطيني من التوجه لاستكمال عضويتنا في بقية المؤسسات الدولية، حتى لا تغضب أميركا التي تبدو في تشدُّدها وتطرفها بالنسبة إلى حقوقنا المشروعة، أكثر تطرفاً وعداءاً من «إسرائيل»، وهي تبرّر عدم موافقتها على القرار الفلسطيني، بأنّ من شأنه تعزيز قوة اليمين «الإسرائيلي»، وهو خطوة أحادية الجانب وكأنّ كلّ ما تقوم به «إسرائيل» من استيطان وقمع وتنكيل وإبعاد في حقّ الفلسطينيين، ليس خطوات أحادية الجانب!
وما كان لأميركا وحتى أوروبا و»إسرائيل» ممارسة مثل هذه البلطجة والعربدة، لو كان هناك موقف فلسطيني وعربي صلب يملك الإرادة السياسية، ومن يقبل أن يقدم تنازلات جوهرية قبل بدء نقاش قراره المقدّم إلى مجلس الأمن، لن يستطيع الثبات على موقفه، وسيفرض الموقف «الإسرائيلي» بشأن القدس مستقبلاً وعلى نحو أسوأ.