حزب الله هو حزب الله!
} صادق النابلسي
في كلمته التي ألقاها في 20-3-2020، تناول الأمين العام لحزب الله سماحة السيد حسن نصر الله قضية العميل عامر الفاخوري مفككاً ومحللاً وناقضاً للمغالطات – التي أخذت بعض جمهور الحزب وبعض حلفائه للاسترسال في الارتياب، ببيانٍ واضح،ٍ تقطع على المغالِط تدليله، بل تعكسه ضدّه وتقلب الحجة عليه. وهو المعروف عنه، أنّه يمتلك قدرات تحليلية وتقويمية تمكّنه من التعامل مع مختلف آليات العرض والاعتراض بضوابط لغوية وأخلاقية مبهرة.
في العادة، لا غرابة من تهجّم الخصوم سواء تبيّنوا القضية التي تُثار المحاجّات حولها أم لم يبدوا أيّ فهم لطبيعتها الحقيقية. فحزب الله يتعرّض لسيل دائم من الدعايات التحريضية والتشويهات المتعمّدة والعدائية المقصودة في قبال أيّ مبادرة أو موقف في قضايا الداخل وتحوّلات وأزمات الخارج. بيد أنّ الغرابة نهضت بقوة عندما أتت سلسلة من الانتقادات والاتهامات والتشكيكات من مكان غير متوقع، أيّ من البيئة والأصدقاء. احتجاج على «صفقة» لم يعقدها الحزب. وعلى «مبادئ» لم يتهاون فيها البتة، وعلى «تقصير» كانت الحكمة فيه أن لا ينقلب إلى تهوّر!
كان سماحته حاسماً، بجمل موجزة، حين أكّد أنّ حزب الله لم يكن على علم من الأساس بوجود صفقة خلف إطلاق سراح العميل الفاخوري، وإن وُجدت حقاً، فالحزب ليس طرفاً فيها، ولا غضّ الطّرف عنها، ولا سكت عليها، ولا غطّاها. أمّا اتهامه بالمساومة على المبادئ فكان الجواب صارماً ومباشراً أيضاً: «لم نبتسم أمام أحد… ولم نُظهر أيّ علامة قبول أو حتى تفهّم أو رضى على الإطلاق، لم يحصل شيء من هذا، لأنّنا… نحن أهل الدم، نحن أولياء الدم»!
وعندما طرح قضية «التقصير» فإنّ الردّ عليها جاء بشيء من التفنيد على خلاف الاتهامين الأولين. إذ ثمة حدود يعرفها جمهور الحزب وربما بعض أصدقائه بأنّ القيادة، وبحسب التجربة التاريخية، لا تمتهن الصفقات على أساس المنطق التجاري والمساومات الحزبية التي تلجأ عادة إليها أحزاب مختلفة في العالم، سواء جاءت في سياق حماية ما لديها، أو من أجل تعظيم المكاسب الخاصة بها، أو تقليل الخسائر عنها بدافع الخوف من الأضرار الحالية والمحتملة. الأمر الآخر الذي يعرفه هذا الجمهور بحكم المعاينة المباشرة، أنّ شرعية الحزب قائمة على مبدئيته. فالقيادة لا يمكنها أن تمزج بين الحقّ والباطل، وتخلط بين ما هو مشروع وما هو غير مشروع، ولا في معايير أخلاقها أنّ ما من أجله الفعل قد يكون مبرّراً بوسيلة محرّمة، ولا في عقيدتها أن تتفاوض على البديهيات استجابة لظروف متغيّرة.
فلم تشعر القيادة يوماً أنّ المبادئ قيود محرجة على تحقيق بعض أهدافها، على العكس من ذلك فهي تعتبر أنّ ذلك من نقاط قوّتها وفرادتها التي أدّت إلى كلّ النجاحات والانتصارات على الصعيدين الداخلي والخارجي.
لذلك انصرف الجدل (المشاغبي) على وسائل التواصل الاجتماعي إلى القضية التالية: إذا كان الحزب لا يقبل بمنطق الصفقات ولا التنازل عن بديهيات المبادئ، فلماذا لم يعطل قرار الإفراج عن العميل الفاخوري؟ لماذا لم يمنعه من الخروج من السجن؟ لماذا لم يقم بـ (٧ أيار) جديد، أم أنّ عزل مدير جهاز أمن عام المطار أهمّ عنده من إطلاق سراح عميل؟ وعند إطلاق سراحه لماذا لم يعمد الحزب إلى منع نقله من المستشفى إلى السفارة الأميركية في «عوكر»؟ ثم أمَا كان بيد الحزب أن يُسقط الطائرة التي أقلّته وهو يمتلك السلاح المناسب والخبرة الكافية لهذا العمل الذي لو فعله لكان أعاد الاعتبار لسيادة لبنان التي انُتهكت بأبشع صورة، وللأسرى الذين كانوا ينتظرون ردّ فعل يخفّف بعض عذاباتهم؟ ومن جملة ما طُرح أيضاً سؤال مازوشي ينحصر بالكلمة الأولى من المثل (عليّ وعلى أعدائي). فتساءل بعض الناشطين، لماذا لم يُسقط حزب الله هذه الحكومة الجبانة بعد الإهانة القاسية التي وُجّهت للبنانيين، أو على أقلّ تقدير لماذا لم ينسحب منها؟
لا شيء جِدّ مألوف وجِدّ عادي أيضاً أكثر من الصراحة التي يواجه بها الأمين العام متابعيه على اختلاف توجّهاتهم. قالها بمرارة هذه المرة: «نحن لا نعمل على المزاج ولا على الانفعال ولا على الإحراجات، نحن حزب للمقاومة وحزب سياسي له قضية ولدينا أصول ومبادئ ورؤية ولدينا نظام أولويات ولدينا نقاش ودراسة، هذا حزب لا يقوده فرد، هذا حزب مؤسسة حقيقية، نناقش وحيث هناك مصلحة للبلد وللناس وللشعب وللمقاومة وتنسجم مع هذه الأصول نقدم عليها وبكلّ شجاعة وبدون أي تردّد، الذي يفترض أنّه بالهجمة الإعلامية وبالإحراج وبالتخوين وبالاتهام وبالشتائم فضلاً عن النصح الموضوعي والهادئ يمكن أن يحرجنا فيأخذنا إلى خيارات غير متناسبة مع القضية والرؤية والأولويات والمسؤولية التي نحن نلتزم بها هو مشتبه «.
لا يؤكد الأمين العام في النصّ الآنف على الروح العلمية في تأسيس الجدل واستخدامه ذلك بطريقة منهجية ونسقية تستحقّ الإعجاب فحسب، وإنّما كان يُلفت إلى ما حلّ بأحزاب قومية وأممية وحتى دينية اكتسبت شرعية ثورية وما لبثت تحت وطأة الضغوط أن انتقلت إلى «النزعة الرغبوية». يمكن أن نضرب مثالاً ببعض الحركات الوطنية الفلسطينية التحرّرية التي تبنّت في بدايات انطلاقتها شعار «تحرير فلسطين من النهر إلى البحر» لكنّها مع الوقت تراجعت عن هذا الهدف، وطرحت بعد هزيمة العام 1967 مبدأ «إزالة آثار العدوان» قبل أن تستقرّ على فكرة شديدة الخطورة هي «الكيانية الفلسطينية» و «الاستقلال الوطني». وقد تكرّس هذا التحوّل في العقل الفلسطيني نهائياً بعد حرب العام 1973. فتخلت هذه الحركات عن كونها «حركة تحرير» إلى «حركة استقلال». وحتى من مطلب كيان على أراضي الضفة الغربية وقطاع غزة إلى كيان على أيّ منطقة تُعطى للفلسطينيين في إطار ما يُعرف بـ «حلّ الدولتين». إنّ هذه الحركات التي رفضت في البداية القبول بالتفاوض والاعتراف والصلح مع كيان العدو الإسرائيلي وقاومت «اتفاقات الإذعان» العربية، هي نفسها التي بذريعة الواقعية وانعدام البدائل وموازين القوى وتعقيدات الصراع ومدخلاته العربية والإقليمية انسلّت من كلّ ما هو ثابت إلى كلّ ما هو متغيّر، ولم تكن التنازلات الجزئية والتكتيكات العملانية إلا خطوة في طريق الاغتراب عن المبادئ والتنازل الكلي عن الحقوق الأساسية التي يُفترض أنها غير قابلة للتصرف. بناء عليه كان سماحته يريد أنّ يؤكد على أنّ عوامل الصراع ليست نفسية كما كان يذهب يوماً الرئيس المصري الراحل أنور السادات. الإدارة الأميركية في قاموس الحزب هي «الشيطان الأكبر». ولا مقتضيات الواقعية تفرض على الحزب تغيير مفاهيمه وقناعاته وصولاً إلى تبني منظومة من القيم تتسق مع متغيّرات إقليمية أو دولية. في الأساس لا مقارنة بين الضغوط والحروب التي تعرّض لها الحزب منذ تأسيسه بقضية عامر الفاخوري ومع ذلك لم يبدّل تبديلاً! أيبدّل اليوم بذريعة الواقعية والخوف من العقوبات أو خوفاً من محظور آتٍ وهو يعلم أنّ أميركا في حالة تراجع وانكفاء وهزيمة على مستوى المنطقة والعالم!
خلاصة الرسالة التي أراد إيصالها في كلمته أنّ حزب الله هو حزب الله. ليس بحاجة لتكرار لاءاته في وجه «إسرائيل» على سبيل المثال، ولا عدائه مع «أمّ المصائب في العالم»، وهو قطعاً لا يبحث عن اعتراف دولي وشرعية أميركية في زمن «كورونا» و»غرق الحضارات»!
ربما كانت فرضيات وافتراضات جمع من الناشطين والكتاب والأصدقاء عجولة ومدفوعة بالتأكيد على أفكار غائمة وسوريالية، لكن شأن الحقيقة أن تظلّ باقية مستمرة بين الناس وهذا ما قام به بمنتهى الكمال السيد نصر الله!