ماركيز في كتاب جديد عن علاقة أدبه بالسينما… عاش ليكتب وتمنّى أن يعيش ليصنع الأفلام
في كتابه الأخير، الصادر حديثاً ضمن منشورات مهرجان القاهرة السينمائي، تحت عنوان «غارسيا ماركيز والسينما: عاش ليكتب وتمنى أن يعيش ليصنع الأفلام»، يبحر بنا الناقد والصحافي والمترجم عصام زكريا في عالم الأديب الكولومبي الكبير غابريل غارسيا ماركيز، ليطلعنا على وجه آخر مغاير لذاك الذي عرفناه عنه كروائي وقاص وصحافي. إنه وجه ماركيز السينمائي الذي قال يوماً عن السينما إنها «أعظم اختراع عرفه عصرنا».
فطن ماركيز لطبيعة الوسيطين السينمائي والأدبي وحدودهما، وأوجه الاختلاف والتلاقي بينهما، وخروجه من تلك الحيرة التي أربكته كثيراً، ليخلص لاحقاً إلى الأدب وحده بإمكاناته الخيالية الهائلة. وفصول الكتاب الأربعة في نحو مئة وعشر صفحات، على النحو الآتي: «عاش ليكتب وتمنى أن يعيش ليصنع الأفلام»، «تأثير الفن السينمائي في أدب غارسيا ماركيز»، الآتي «الطرائق كثيرة لكتابة سيناريو… ولكن كلها لا تنفع»، «عن الحب والسلطة وشياطين أخرى»، وتليها ثلاثة ملاحق تحت عنوان: «نحن لسنا الله»، إلى الفيلموغرافيا والمراجع، وتتخلل فصول الكتاب مجموعة رائعة من الصور لماركيز في مراحل عمرية مختلفة، ولقطات من الأفلام وملصقاتها.
يتطرق الناقد في الفصل الأول من الكتاب، الذي يحمل العنوان الفرعي نفسه، «عاش ليكتب وتمنى أن يعيش ليصنع الأفلام»، إلى الرغبة التي كثيراً ما داعبت ماركيز، أحد أكثر أدباء العالم تماساً مع عالم السينما ومجالاته المختلفة، في أن يصبح مخرجاً سينمائياً يصنع أفلامه بنفسه وفقاً للصور التي تتراءى في مخيلته وتتبدى أمام عينيه. لكننا نعلم من خلال هذا الفصل سبب تطليق ماركيز هذا الحلم طلاقاً بائناً والاكتفاء بالأدب، رغم انخراطه طوال حياته في ممارسة النقد وكتابة السيناريو وتدريس السينما، وحتى القيام ببعض الأدوار الهامشية في عدد من الأفلام. كما يتناول هذا الفصل بدايات تعرّف ماركيز إلى عالم السينما عندما كان صغيراً، وذكرياته مع الأفلام الأولى التي حببته في السينما وتركت فيه أبلغ أثر طوال حياته، ثم سفره إلى إيطاليا كمراسل صحافي، وانتهازه تلك الفرصة لدراسة السينما هناك، وسبب ابتعاده عن الدراسة ونفوره منها بعد عام واحد فحسب.
تتمحور افتتاحية الفصل الثاني تحت عنوان «تأثير الفن السينمائي في أدب غارسيا ماركيز» حول أهم الأفلام والأبطال والمخرجين الذين أثروا في ماركيز في بداياته عندما كان يشاهد الأفلام الأميركية والأوروبية التي كانت تعرض في كولومبيا، وينتقل منها ليحدثنا عن تأثير الصورة البصرية لدى ماركيز، وكيف يستلهم منها كتاباته، ثم ينقل إلينا على لسانه كيف أنه فطن لطبيعة الوسيطين السينمائي والأدبي وحدودهما، وأوجه الاختلاف والتلاقي بينهما، وخروجه من تلك الحيرة التي أربكته كثيراً، ليخلص لاحقاً إلى الأدب وحده بإمكاناته الخيالية الهائلة على حد قوله، ويكف حتى عن كتابة السيناريوات.
تحت عنوان فرعي، «العوامل السينمائية في أدب ماركيز»، يورد الكاتب أبرز ما قاله النقاد عن بعض العوامل السينمائية البادية في أدب ماركيز، سواءً في أعماله الباكرة أو اللاحقة، ويُختتم الفصل بعنوان فرعي تساؤلي: «لماذا خيبت أعمال غارسيا ماركيز السينمائية توقعات القراء؟»، ويحاول الكاتب تحت هذا العنوان تفسير لماذا لم تحظ الأعمال السينمائية التي تحمل اسم ماركيز باهتمام نقدي وشعبي يليق به وبأعماله الأدبية، ربما باستثناء ثلاثة أعمال فقط؟ وتأتي الإجابة عن هذا السؤال الكبير من خلال آراء بعض النقاد الذين فندوا الأمر بكلمات قليلة جداً لكنها غاية في العمق والقوة.
في الفصل الثالث، «الطرائق كثيرة لكتابة سيناريو… لكنها كلها لا تنفع»، وقبل أن يدخل بنا المؤلف في صميم عنوان الفصل يعيدنا مرة أخرى على نحو شديد التفصيل في هذه المرة إلى بدايات علاقة ماركيز بالسينما، ثم مشواره الذي استمر سنوات طويلة في كتابة النقد السينمائي الجاد الرصين، ودوره الرائد في هذا المجال الذي كان جديداً في كولومبيا آنذاك. ثم ينطلق بعد ذلك تحت عنوان فرعي هو «غارسيا ماركيز أستاذ السينما» لاستخلاص أهم ما قاله وكتبه ونصح به ماركيز كتاب السيناريو، من خلال الأجزاء الثلاثة لكتاب «كيف تحكي حكاية؟» والتي كانت خلاصة ورشة ماركيز للسيناريو. ثم يُختتم الفصل بعنوان فرعي شديد الأهمية يورد فيه المؤلف أهم ما ذكره ماركيز عن الفرق بين الروائي وكاتب السيناريو وسبب اعتباره أن المهنتين مختلفتان جذرياً.
الفصل الرابع أهم فصول الكتاب وأطولها وعنوانه «عن الحب والسلطة وشياطين أخرى: نماذج من أفلام غارسيا ماركيز»، يحلق فيه الكاتب والناقد عصام زكريا منتقلاً بنا بين ثلاثة عشر فيلماً من أهم الأفلام المأخوذة مباشرة من نصوص ماركيز الأدبية، مثل «وقائع موت معلن»، و»ليس لدى الكولونيل من يراسله»، و»ساعة نحس»، و»الحب في زمن الكوليرا»، انتهاء بفيلم «ذاكرة غانياتي الحزينات». وأحسن الناقد صنعاً بأن أورد مع كل فيلم ملخّصاً عنه، ثم انتقل إلى العمل الأدبي ناقلاً محتواه، عاقداً مقارنة نقدية أدبية سينمائية ومبيناً أوجه التشابه أو الاختلاف، ثم نقاط الضعف والقوة في الفيلم ولماذا، من الناحية السينمائية، ومقارنة بالنص الأدبي، كما يعطينا مع كل فيلم تقويمه الخاص كناقد متمرس لأكثر المخرجين نجاحاً في الاقتراب من عالم ماركيز الأدبي وأكثرهم ابتعاداً عنه.
تحت عنوان «ملاحق» ثمة ملحق يضم حواراً مترجماً كان ماركيز أجراه مع المخرج السينمائي الكبير أكيرا كوروساوا، لمناسبة إخراجه أحدث أفلامه آنذاك، «رابسودي في آب»، ومن أبرز الأسئلة في هذا الحوار السؤال الذي سأله فيه كوروساوا عن أول ما يخطر في ذهنه بدءاً، الفكرة أم الصورة. الملحق الثاني عنوانه «الصحافة والسينما: عملان ثانويان»، عبارة عن فصل مترجم من كتاب «عزلة غابريل غارسيا ماركيز» ويتحدث فيه عن الصحافة بوصفها عملاً ثانوياً يمارسه المرء للتعيّش، وكيف ينبغي أن يأتي وقت ويتركها، اقتداءً بنصيحة هيمنغواي، والأمر نفسه بالنسبة إلى كتابة السيناريو، كما يجيب عن سؤال متعلق ببصمة الصحافة والسينما على إنتاجه الأدبي.
آخر الملاحق عنوانه «خلطة سينمائية ناجحة: جائزة نوبل ومجلة بلاي بوي!»، عبارة عن مقال مترجم كتبه المنتج الهوليوود المعروف هارفي واينتسين بعد أيام من وفاة ماركيز ويستعرض فيه ذكرياته مع ماركيز، وأغلبها شديد الطرافة، وهي خير ختام بالفعل لهذا الكتاب الممتع.