قيامة مجيدة مع عشق مديد وفيروس عتيد
آمنة بدر الدين الحلبي
مع مسيرِ القمر الكبير إلى الأحدبِ المتزايد تبدّلتْ سماء الكون، وأخذت لوناً ذهبياً جميلاً وكأنها استبشرتْ فرحاً بالخلاص من فيروس عتيد، وإذ بالسماء السابعة ـ العجماء ـ مضيئة كدرّةٍ بيضاء، فرحة بأرض تنفست الصعداء قليلاً من قيد البشر وعبثهم.
كلّ ما في العالم يدور بصمت إلا من سمفونية تدقّ من عالم منسيّ تصدر من وراء جدران صمّاء كأنها هسيس نار مشتعلة على وتر القلوب التواقة للفرح والحب والمحبة، فالأشجار تعزف سمفونيتها بحزن، لأنّ معاشر الأغصان امتثلت لأوامر كورونا وامتنعت عن العشق اللاهوتي حفظاً للأمن والأمان وأوامر منظمة القطط المتوحشة.
من خلف نافذتي جلست أراقب الكون، ودفعني فضولي لفتح زاويتها علّني أسمع قيثارة قيامة مجيدة تتغلب على فيروس عتيد، وتعلن الحب بكلّ جرأة خوفاً على المشاعر الإنسانية من التوحّد والتوحّش من خلال السجون الانفرادية التي باتت إلزامية تعيث قهراً وقتلاً وعنفاً على الأسر جمعاء.
نسمات ربيعية لامست وجهي، وأوحت بحدث جميل حاملاً معه كلّ الحب والمحبة في تلك الليلة، وإذ بحورية الليل تطلّ من شرفتها وتمشي الهوينا لاستنشاق هواء نظيف بعد طول انتظار.
لكن حورية الليل كان يلاحقها تغريدٌ من نوعٍ خاص لم آلفه في الكون تلك الليلة، تجرُّ وراءها عربة صغيرة مزيّنة بكلّ أنواع الورود الجميلة، تحتضنُ في وسطها قفصاً ذهبيّ اللون، في داخله عصفوران جميلان متّحدان، كلّ منهما يمارس عشقه الأبديّ بهدوء.
قلت: أطلقي حرية العصافير كي تغرّدَ لنا على أغصان الأشجار.
قالت: أخاف عليهما من فيروس كورونا العتيد، اصبري يا صديقة الليل سأديرُ قيثارة الحياة التي أهداني إياها حبيبي وراقبي العصفورين الجميلين ليلة القيامة المجيدة.
قلت: عصافير الحب وفيةٌ، يا لها من هديةٍ رائعة تعبّرُ عن إخلاص صاحبها، لكن لم أسمع صوتهما.
صمتتْ برهة وما ان فتحتْ اسطوانة تغزل كلمات حب بين اثنين على قيثارة أورنينا حتى بدأ العشق يهزّ القفص هزاً.
استغربتُ هذا العشق حين ارتفع صوت القيثارة حتى طغى تغريد الأنثى على صوت الموسيقى، وألفيتُ كلاً منهما يغيب في عشقٍ مهيب، والاثنان مصابان بـ قشعريرة عصفوريّة خاصة.
قطعتْ عليَّ تأمّلي وصمتي، وأنا أرقبُ أجمل المخلوقات وأصغرها كيف تمارسُ عشقها الأبدي بحنان ووفاء، ونحن نمارس صمتنا المقيت في ظلّ فيروس كورونا العتيد.
قلت: إنهما في غيبوبة جميلة، ألم تخافي عليهما من ذاك الفيروس اللعين يغزو قفصهما.
قالت: الحب أقوى من الفيروس، فكيف بالعشق اللاهوتي يا صديقتي ليلة القيامة المجيدة تنثر محبتها لنقوم من تلك المحنة التي حلّت علينا.
قلت: حجزونا في السجون الإجبارية، ومنعوا عنا الهواء والشمس، فكيف يتسلّل الفرح إلى أرواحنا، والحب إلى قلوبنا.
قالت: فيروس كورونا العتيد لم يمنعنا من الفرح كي نشارك في ليلة القيامة، ولم يمنع الحب من تقديم هداياه في تلك الليلة، فقد أرسل حبيبي هديته على زند الريح.
قال: سأظلّ أعشقكِ مثل هذين العصفورين على أنغام أورنينا.
قالت: مَن تكون أورنينا تلك؟
قال: هي لقبٌ وليست اسماً وتعني «سيدة المعبد» أو «مغنية المعبد» تنشد فيه الأناشيد، وترتلها بمرافقة الموسيقا في مملكة ماري إحدى أقدم الممالك السورية على الفرات الأوسط.
قالت: أخبرني عنها وعن تاريخها ومدنها.
قال: «اليوم خمرٌ وغداً أمر» هكذا قال أمرؤ القيس شاعر العرب استمتعي بهديتي وعندما أعود محملاً بالشوق وأنهي مهامي الوطنية سأقصُّ عليك كلّ الحكايات.
قالت: وكيف يواصل العصفوران عشقهما في ذاك القفص.
قال: لا تدعي غريباً يقترب منهما، ولا تدعي قيثارة الحب تصمت.
قالت: ومَن يغزل لي حروف الحب، ويعزف لي قيثارة العشق؟
قال: أنت قيثارة الروح، وبهجة الأيام، أخرجتِ روحي من العدم، ووهبتني الحياة، لقيامة حياتنا المجيدة.
قالت: إن كنت تحبني فارتِقْ ثقب روحي التي جفت بغربةٍ صحراوية، وسجنٍ مقيت.
قال: سأرتقُ غداً كلّ الثقوب، وأخيطُ شقوق القهر.
ابتسمتْ بحزنٍ شقّ ضلوع الصدر، وكتمتْ دمعَ عينيها، وحرّكتْ إبرة الأسطوانة مرة أخرى، فانتفضَ العصفوران يغردان بلا حدود، كلما اهتزتْ أجنحتهما، لمعتِ الألوان، وكلما ازدادَ الطرب، سمعنا تغريداً حنوناً مكتوباً على عيون مليئة بالصدق والاخلاص.
قلت: غيِّري إبرة الاسطوانة.
قالت: يصمتان لأنهما لا يغرّدان إلا عند سماعها، هي قيثارة خالدة للعشق الأبدي.
قلت غيّري موقعهما، أو ضعي معهما عصفوراً آخر ربما يتغيّر حالهما.
قالت: هو حاول أن يضع للذكر أنثى جميلة، يا لهول ما حدث، أخذ العصفوران بزقزقةٍ مخيفة، وضربات بالأجنحة على الغريب الداخل إلى بيتهما، كان العداء منصوباً لها، وبلمح البرق مددتُ يدي وأخرجتُ الأنثى المسكينة جريحة الجسد والقلب معاً.
قلت: هل يستطع أحد أن يفرّق بين قلبين يا قيثارة الحب؟
قالت: العصافير تتعصّبُ للونها الغنائي، ولعشقها العظيم، ولجمالها البديع، وتتحد لتكوّن مجتمعاً قوياً متماسكاً، إلا نحن بنو البشر.
قلت: لماذا نحن لا نتعصّب مثلها ونحافظ على عشقنا، وعلى أوطاننا؟
زفرةُ ألمٍ خرجت من بين الترائب، وأشاحتْ بوجهها عني كأنها غرقتْ بطوفانِ نوح، فاحترمت صمتها وألمها، لكنها شعرتْ بسرعةِ البرق حزني.
قالت: في مثل تلك الليلة، أدار اسطوانة أورنينا ليراقصني حتى الصباح كما عصافير الحب.
قال: عِطْرُكِ يُسكرني، ولون عينيكِ يغريني كخمرٍ في خوابي الدّنان المعتقة، وملامح وجهك يشعلُ البياض في روح الليل.
قالت: احضني بكلتا يديكَ ولا تفارق روحاً اشتعلت بحبكَ.
قال: كلما ابتعدتُ، يلهبني الشوق جنوناً.
قالت: أجمل الجنون عندما يتوه الحبيب في حضنِ الحب طوعاً، يُعتبر قمة الجنون.
قال: منتهى العقل أن أكون مجنوناً بكِ.
قالت: خجلاً من عصافير الحب تعلم كيف يكون الوفاء، كيف يكون الإخلاص أمام سيول جارفة في هذا الزمن الصعب لا تعرف معنى الحب.
قال: سيبقى حبنا شمعة متوهّجة يا حبي الأبدي، اغرقي في مجاهلي وأنتِ في خمرة الحب.
قالت: تراقصني، على قيثارة أورنينا، وتلفني كوشاحٍ حول جسدكَ، خوفاً عليَّ من الضياع.
قال: عطركِ المجنون يخترقُ مسام روحي، ويقصُّ روايات عصافير الحب.
قالت: تعال نمارسْ عشقنا قبل أن يصل القمر إلى المحاق.
قال: بحضوركِ بين ذراعي يكتملُ القمر، ويراقصني الحنان على أنغامِ أورنينا.
قالت: عاشقٌ مجنون لا يجيد الرقصَ على المشاعر إلاّ بالليل.
قال: أنا ابن الليل، أحملُ بين شغافِ قلبي روحك، ومع امتداد لسان الصباح ستعودين إلى معبدكِ يا قيثارة أورنينا، غرّدي لي.
بعدما رَبَتْ محبَّتكَ في قلبي…
أنْبَتتْ حبّاً وياسميناً…
ثَنَيْتَ عِطْفَكَ عن ذاكرةٍ…
كانت تعجُّ بـ الحنين…
قال: هو الواجب الوطني لأحمي العالم من فيروس عتيد في ليلة القيامة المجيدة، لنقوم معاً إلى الفرح.
وغابت في صمت حزين، قطعت صمتها..
قلت: نقيم القداديس من النوافذ ونبتهل إلى الله في تلك الليلة؟
قالت: نرفع القداديس من السجون ليلة القيامة المجيدة خوفاً من فيروس عتيد!
قلت: قيثارة «أورنينا» تحيي القلوب، وتعيد تكوين الحياة من خلف النوافذ.
قالت: تلبّدتْ غيومَ روحي ضاعتْ مدنَ قلبي..
نزفت كؤوس معبدي…
كرومي يَبِسَتْ…
زهرُ الرمانِ ذرفَ دموعه…
على خدِّ الزمنِ الصامت…
واستيقظ العنف…
في مدارات العالم…
أضاع كسرةَ خبزٍ… ورشفةَ نبيذه…
في تلك الليلة… منع الحب…
خوفاً من فيروس عتيد، وعشق مديد، في ليلة القيامة المجيدة.