الومضة والصورة الشعريّة
} ميساء طربيه
تُعدّ هندسة شبكة الزّمان والمكان نقطة أساسية لتحديد موقع ما على أرض الواقع، وأما في النّص الأدبي فتأخذ هذه الهندسة بعدًا جماليًا لتحديد المعنى للصورة الشعرية، وارتكازًا على المصطلحات الفيزيائية السّرعة، المساحة، وهندسة الزّمكان الّتي تأخذ حيزًا في مجال الومضة الأدبيّة، وتأخذ حركة هذه المصطلحات داخل الومضة بعدًا تجريديًا مختلفًا، ويحقق استخدامها مرونة في قراءة الومضة، وتاليًا، رصد حركة انتقال المعاني داخل هندسة شبكة الزّمان والمكان بسرعةٍ فائقةٍ، فانتقلت هذه المصطلحات الفيزيائية القياسية إلى مفاهيم أدبية مرنة.
تبدأ حركة تجريد المصطلحات بعملية مسح ضوئي لها، وأخذ مفهومها المجرد واستخدامه في قراءة الومضة، لرصد على ضوء هذه المصطلحات الحركة الإبداعيّة فيها، تعتمد هندسة الزّمان والمكان، على مفهوم الزّمن وهو بدوره مجرد في الأذهان ونسبي بين الموجودات، ومفهوم المكان بأبعاده الثّلاثية الطول والعرض والارتفاع، وهذه الأبعاد هي كتل وأشكال وأحجام تتفاوت في الضغط، الحرارة، والبرودة…، وعند تجريد هذه الأبعاد من حالتها الأساسيّة إلى صورة دقيقة مجردة تؤدّي إلى انعدام كتلتها ويسهل انتقالها في الذهن من الجزء الأيمن إلى الأيسر وبالعكس، مما يكسبها مرونة عالية في التنقل بين نقطتين أو أكثر.
تعتمد حركة اتجاه المسافة على الانسجام مع العناصر المتبقية، لأن تجريد المصطلحات السّابق ذكرها، يجرّدها ذهنيًا من روابطها المكانية واتجاهاتها الأساسية، من أجل أن تقيم روابط تجريدية جديدة، وهذا ما يعطيها سرعة في الانتقال ذهنيًّا من مكان إلى آخر، لأن استحضار أي كلمة للموجودات، تنتقل معها محمولاتها المعرفية، ويصبح بذلك الانتقال بين دلالاتها المختلفة أسهل وإكسابها معلومات (عاطفية) أخرى وتشفيرها داخل سياق معين؛ وهنا نستخدم سرعة الضوء في الفراغ (بحسب الفيزياء)، والفراغ مساحة وهي موجودة بين حالة المادة وتجريدها. فتُشكل الصورة بسرعة فائقة، لأن الفيزياء التجريدية والكيمياء لا يحتاج تجريدهما إلى كتلة في الذهن بل حضورهما معنويًّا، وعند تجريد الكلمات وربطها بدلالات جديدة تتشكل في الذهن صور جديدة تكون نتاجًا لتفاعل الأزمنة ذهنيًا. وهنا يظهر تأثير الزّمن في ربط دلالات أخرى للكلمات (أفعال، أسماء، حروف).
إنّ تجريد البعد المكانيّ وروابطه واتجاهاته تعطيه قيمة المرونة في الحركة ويسمح ببناء علاقات جديدة في سياقات منتظمة بين الأماكن المختلفة بسرعة كبيرة، إضافة إلى ذلك لكلّ مكان زمانه الخاصّ وعاطفته الخاصّة وينقسم أو يتوزع بالنّسبة للروابط القديمة والروابط الجديدة كليًّا أو جزئيًّا، وكذلك المكان.
وأما ربط الشاعر لشبكة الزّمكان في فضاء الومضة، تحصل ضمن حركة انسجام وهذا الانسجام يشحنه بأحاسيسه وعاطفته وتجربته، وتجاربه السابقة الّتي حصلت في الماضي ستستحضر إليه على شكل حكمة لأن الومضة لا تتسع لإبراز تجارب حصلت في أماكن مختلفة وعلى مدى فترة زمنيّة، ليعطي الروابط تأثيرًا وجاذبية خاصة به ويشفرها في الومضة، والّتي تجمع بين العاطفة والحكمة بين الدماغ الأيمن والأيسر بين الآداب والعلوم لتعطي حكمة عاطفية. يكون بهذه الحركة قد أقام الشاعر هندسة زمكان في فضاء الومضة.
نستنتج مما سبق، أنّ الحركة الإبداعية في الومضة، هي مرونة الحركة للزّمان والمكان داخل هندسة الزّمكان في فضاء الومضة، من خلال إقامة روابط جديدة للأماكن اعتمادًا على الاتجاهات وتغيّر المسافات بسرعة، وتخيّل أبعاد جديدة لها من أبعاد للمكان، الزمان، اللون، الاتجاه، الحركة… فهندسة الزّمان والمكان للموجودات، وهندسة زمان ومكان الشاعر، ترسم هندسة زمكان للومضة.
والتّوازن في المسافة بين هندسة زمكان فضاء الومضة، الّتي تلتقي مع زمكان عين المتلقي، مما يسمح لها بالتقاط صورة وهذه الصورة تحمل معنى، وعند وصولها الى ذهن المتلقي سيقوم بتحليل النّص على أساس الصورة والمعنى.
أنموذج تحليلي:
الدكتور كامل صالح:
خذي ما تبقى من هذا النهار
خذي ظلال الأشجار
وحياة الساحرات
خذي دهشة الصفصاف
وأسرار الينابيع
وقبل أن تتكئي على النسيان
دسّي بحرَك في قهوتي /لأنام
هذا النّص في الشكل، لا علامات ترقيم فيه، سوى إشارة (/) وكأنها حاجز بين النّص والكلمة، واستنادًا إلى هذه الإشارة (نقطة ارتكاز الشكل أو الصورة)، نجد أن هذا الحاجز وهميّ بين النّص والكلمة، لأن النّص مجموعة من الكلمات، يحكمها نسق لفظيّ ودلالي خاص بالصورة والفكرة الّتي يقدّمها. فالتبادل المعرفي بين النّص والكلمة يعطي الكلمة تكثيفًا دلاليًّا والكلمة بدورها في السياق تعطي النّص تكثيفّا دلاليًّا، واستنادًا إلى هذا التبادل وهذا الحوار الدلالي بين النّص والكلمة (وهذه نقطة ارتكاز الفكرة)، حيث الأخذ والعطاء متوازنان بين النّهار واللّيل، لأن حركة الأرض حول نفسها مستمرة، فنجد في النّص كلمة (النهار) معرفة، جعل الشاعر تحديد الزّمان في النّص معرفة لديه وكذلك في الكلمات الأخرى من حيث الشكل، النوع، الرائحة، الحجم للأشجار والصفصاف. وكلمة الينابيع أيضًا معرفة وكلمة أسرار رغم غموضها نكرة، وحتّى في حركة الاتكاء، بعدها كلمة النسيان معرفة فهي أيضًا معرفة عند الشاعر، فالكلمات هذه حمّلها الشاعر مضمونًا دلاليًا جديدًا خاص به، وفي الشطر الأخير تأتي المفارقة هنا في هذا النّص للصورة والفكرة.
*الأدب الوجيز.