الثقة بالحكومة مشروطة بحسم ملف الفساد بمناسبة الجلسة التشريعيّة
ناصر قنديل
– يشكّل الإجماع الذي حملته التصريحات السياسية حول الفساد، والإجماع في الكلام عن إعادة المال المنهوب، اعترافاً سياسياً صريحاً من كل الأطراف التي شاركت كلياً أو جزئياً، بصورة مستديمة أو متقطعة، في ممارسة الحكم، بأن الخلل الرئيسي في وضعية الدولة ينطلق من تورط السلطات الناظمة لحضورها بملفات فساد هائلة، استنزفت جزءاً كبيراً من المال العام، خلال ثلاثين سنة متتالية، وجاءت هذه الاعترافات لتحاول أن تتلاقى مع الصرخة الشعبيّة المدوّية والغضب الشعبي العارم، اللذين عبّرت عنهما انتفاضة 17 تشرين الأول الماضي، وعنوانهما سقوط الثقة بالدولة، لأن السلطات المتعاقبة توزّعت بين شراكات فساد ومحاصصة فاسدة، أو على الأقل تعايش مع الفساد وفشل في محاربته. وبدت محاولات الملاقاة الجامعة كمجموع لسعي منفرد للتبرؤ من الشراكة بالمسؤولية لم تلق القبول من الرأي العام. وجاءت المواقف الدولية في مرحلة الانتفاضة خصوصاً، لتركز على الحاجة إلى إصلاحات عميقة تعيد الثقة بطرق وسبل إنفاق المال العام، وخصوصاً التحقق من نجاح السلطة بمحاربة الفساد.
– كل هذا يقول إنه مهما فعلت الحكومة الحالية، ومهما قدمت من خطط منطقية مقنعة لمعالجة مشاكل المالية العامة، أو للنهوض بالاقتصاد، فإن العقدة الرئيسية داخلياً وخارجياً، شعبياً وسياسياً، ستبقى عند قدرة هذه الحكومة كعنوان للسلطة في رد الاعتبار لفكرة الدولة، والثقة بها، كمؤتمن على المال العام، ومدخل الثقة لم يعد ممكناً تبديله، إنه ببساطة ووضوح شديدين، قدرة الحكومة، هذه الحكومة أو أي حكومة أخرى، على حسم ملف الفساد.
– تمتاز هذه الحكومة عن سواها، بأن رئيسها والعديد من وزرائها، يأتون من خارج الطاقم السياسي الذي لن يحصل على صك البراءة دون المرور بالمساءلة أمام جهة موثوقة ومحايدة، وأداء الحكومة حتى الآن رغم ما يواجهها من خطاب معارض، يمنحها هذه الفرصة، إن لم يكن من الإجماع السياسي الداخلي، فمن تطلّب شعبي واضح، ودعوة خارجية ملحة.
– من المستحيل أن يبقى الكلام عن وجود فساد متجذّر بحجم ما يقوله السياسيون، ويرمي كل منهم به على الآخر، فيختار ملفات بعينها دون سواها ويتحدث عن كونها ملفات الفساد الحصرية، دون وجود فاسدين يجلبون امام القضاء، ويقتنع الناس بأنهم مسؤولون عن نهب المال العام، ودون وجود أرقام مفصلة لكل ملف تمّت من خلاله عملية وضع اليد على هذا المال العام، أو على الأقل دون نجاح الحكومة بالإعلان عن استرداد أرقام مجزية ومقنعة تقول إنه بموجبها تمت المصالحات على صفقات التلاعب بالمال العام.
– بالإضافة لكل ذلك يعتقد اللبنانيون ومثلهم العرب والأجانب الذين تتطلع الحكومة ومعها الشعب اللبناني نحوهم لمساندة لبنان، أن حجم المبالغ الواجبة استعادتها ليس رمزياً لإنهاء ملف غياب الثقة، بل إن المبالغ الممكن واقعياً استردادها تشكل جزءاً هاماً من الموازنة اللازمة لمواجهة الأزمة المالية الراهنة.
– القضية ليست أحجية مستحيلة طبعاً، ولكنها ليست كما يتخيّل البعض، ويقول بطيبة وحماس، خذوا السياسيين إلى السجن وهدّدوهم، أو يقول آخرون إن الحكومة تستطيع بجرة قلم أن تقرّر ما يتوجب على كل منهم سداده، أو ما يفترضه آخرون من وجود وثائق جاهزة تظهر الحقائق ولا تحتاج إلا إلى الإفراج عنها، أو أن هناك قوانين صالحة الآن لبدء المعالجة من دون إضافة تشريعات تتيح كشف المستور وملاحقة ما ومَن تجب ملاحقته، أو أن القضاء لديه ما يكفي ولا يحتاج إلا إلى غطاء سياسي ليقوم بمهمته، فرغم وجود ملفات، تبقى المشكلة في أمرين، وجود حصانات يقدمها القانون لكل من تولى الشأن العام، وسرية مصرفية تطال حسابات كل المودعين، ومنهم المعنيون بملفات الفساد. والوضع القانوني الحالي يقوم على معادلة مستحيلة، أن البدء بأي ملاحقة قضائية يحتاج إلى دليل، وعندها يمكن طلب رفع الحصانة ورفع السرية المصرفية عن حسابات المعني بالملاحقة، بينما واقعياً لن يتوافر الدليل دون رفع الحصانة ورفع هذه السرية، لذلك فإن نقطة البداية في مواجهة الفساد هي بقانون يرفع الحصانات تلقائياً عن كل من تولى الشأن العام، للتحقيق والملاحقة في ملفات الفساد، ورفع السرية المصرفية عن حساباته دون الحاجة لبدء ملاحقة قضائية مبنيّة على دلائل، بل بحثاً عن دلائل.
– رغم وجود أكثر من اقتراح قانون أمام مجلس النواب حول هذا العنوان، فإن الجدل مستمر والأزمة مستمرة، ويبقى أن مبادرة الحكومة لتقديم مشروع قانون واحد معجل مكرر بمادة وحيدة، يشكل الجواب المطلوب، مشروع قانون بمادة وحيدة تنصّ على تولي قوام المجلس العدلي صفة هيئة قضائية عليا لملاحقة الجرائم التي تطال المال العام، وتوليه التحقيق في ثروات وحسابات كل من تولى الشأن العام منذ العام 1990، وكل مَن تاجر أو تعاقد مع الدولة بصورة مباشرة أو غير مباشرة، وكل من استثمر في سندات الدين الصادرة عن وزارة المال، أو استثمر في الفوائد المصرفية الممنوحة من مصرف لبنان، بما فيها الهندسات المالية المصرفية، وكل من استفاد من أملاك الدولة المنقولة وغير المنقولة بقوانين أو مراسيم أو قرارات، على أن ترفع الحصانات عن هؤلاء جميعاً لمدة سنة من تاريخ صدور القانون، لإنهاء التحقيقات، قابلة للتمديد سنة إضافية لمن يقرر قضاة التحقيق الحاجة لمتابعة ملفاتهم، على أن ترفع السرية عن حسابات كل هؤلاء، أموالهم وأملاكهم في لبنان والخارج، طوال هذه المدة، ويمنح المجلس بصفته هذه كهيئة قضائية عليا لجرائم المال العام صلاحيات الاستعانة بمن يشاء من الخبراء اللبنانيين وغير اللبنانيين وأن يستدعي من يحتاج من الإدارات العامة والشركات الخاصة، وفي خلاصات التحقيقات التي يجريها يمنح المجلس صلاحيات إعلان البراءة والإبراء والمصالحات وإصدار الأحكام.
– ميزة هذا المشروع أنه يضع الجميع أمام الاختبار تحت الأضواء الكاشفة للرأي العام في الداخل والخارج، وما لم يتم إقرار القانون سيكون المجلس النيابي في وضع شديد الحرج، وإن تمّ إقرار القانون، سيكون بمستطاع الحكومة تسجيل أول إنجاز كبير على طريق استعادة الثقة داخلياً وخارجياً، لتقرأ خططها المالية والاقتصادية وتؤخذ على محل الجد، ولن يكون مستحيلاً أن يضاف إلى استعادة الثقة استعادة أموال لا يستهان بها.
– مناسبة الكلام هي الجلسة التشريعية المنعقدة هذه الأيام كفرصة يجب ألا تضيع.