لبنان وإشكاليّات التغيير: هروب إلى الأمام أم إلى الوراء؟ مناقشة لأفكار شربل نحاس وملحم خلف
مختصر مفيد
أتيح لكل مَن تابع الطروحات التي تقدم بها الوزير السابق المناضل الشرس بوجه الفساد، شربل نحاس، ونقيب المحامين الآتي على جناح انتفاضة 17 تشرين الأول ملحم خلف، أن يستمع إلى ما يبدو إلى مشروع متكامل لنظام اقتصادي وقانوني قادر على الخروج بلبنان من أزمته الراهنة، لا بل من أزماته المتشابكة والمعقدة، وكل مَن يملك قدراً من الثقافة والخبرة في المجالين الاقتصادي والقانوني، يلاقي الكثير من الطروحات التي تقدّم بها كل من المتحدثين في برنامج حواري للإعلامي البير كوستانيان على قناة ال بي سي، والتي تتلخّص بالدعوة لحكم سياسيّ بعيد عن الفساد وقائم على مفاهيم حقيقية لدولة القانون والمؤسسات، وقواعد تنموية جدية للاقتصاد.
من عاش تجربة الستينيات ومطلع السبعينيات في النقاش السياسي اللبناني، يستذكر في الكلام المقال نموذجين عرفتهما الحركة الطالبية آنذاك، نموذج منظمة لبنان الاشتراكي ولبنانيون اشتراكيون، الذي أنتج لاحقاً منظمة العمل الشيوعي، من جهة، ونموذج حركة الوعي – جبهة الشباب اللبناني من جهة أخرى، وقد تقاسم التياران قيادة النضال الطالبي في أواخر الستينيات ومطلع السبعينيات، وشكل رموزهما قادة تلك الحركة النهضوية في تاريخ لبنان، فوصل أنور الفطايري المنتمي للحزب التقدمي الاشتراكي إلى رئاسة الاتحاد الوطني لطالب الجامعة اللبنانية بقوة تأييد ما عُرف يومها بتحالف القوى الديمقراطية التي تزعمتها رموز قيادية كفواز طرابلسي وسعود المولى وحكمت عيد مع شيوعيين من أمثال سعد الله مزرعاني، وكانت منظمة العمل الشيوعي تشكل القوة الصاعدة لليسار في تلك الأيام، مع دمج مجموعتي «لبنان الاشتراكي» و»اشتراكيون لبنانيون»، بعدما كان عصام خليفة قد ترأس الاتحاد ممثلاً لحركة الوعي – جبهة الشباب اللبناني التي كان ومعه قادة مثقفون من أمثال بول شاوول يمثلون نبضها التغييريّ، وبعدما كانت الحركة الطالبية الجامعية قد عرفت منذ الخسمينيات وخلال الستينيات، قادة من أمثال عصام كرم ونبيه بري، ونزار يونس وجورج حاوي، وميشال سماحة وكريم بقرادوني.
جوهر البرنامج التغييري الديمقراطي المسيطر على الحركة الطالبية كان يقوم بحاصل توازناته بين يسار ويمين ووسط، هي غير اليمين واليسار والوسط في البيئة السياسية، على خطاب تصالحي ضمني مضمونه، النضال لإزاحة ما وصفت بالطغمة الحاكمة المنتمية عموماً إلى أصول إقطاعية، وبناء دولة عصرية على أسس قانونية قوامها عدالة اجتماعية يجسّدها قانون ضريبة تصاعدي على الدخل، وديمقراطية التعليم ومجانيته، والانتقال من الاقتصاد الريعي إلى الاقتصاد الإنتاجي، ومكافحة الفساد عبر تطبيق قانون لمنع الإثراء غير المشروع تحت عنوان، من أين لك هذا، وكانت هذه الحركة بقوة هذا الخطاب الجامع، قد بلغت مرتبة من القوة والتاثير ما جعلها تؤرق بالَ الحاكمين، وتشكل اللاعب الرئيسي في الساحة مقابل الحكم، لكن الأسئلة الكبرى التي فجّرتها التطورات التي أحاطت بالنضال الطالبي جعلت الأحداث تسبق برامجها، وفرضت سياقاً مختلفاً، فتشققت الصفوف الطالبية، وتضاءل حضورها، وتحوّل بعضها إلى جزء من قوى الحرب الأهلية، وذهب بعضها الآخر إلى التهميش، فما هي الإشكاليات التي تحيط بقضية التغيير في لبنان، وقد يسهل تجاهلها في سياق نظري بارد، حتى تأتي الأحداث العاصفة وتفرضها بقوة كفاعل رئيسي غير قابل للتجاهل؟
تقول التجربة اللبنانية إن مهمة بناء الدولة القادرة على حل إشكاليتي التنمية والحداثة، مستحيلة ما لم تمتلك أجوبة على أسئلة من نوع: ماذا عن المشروع الأميركي في المنطقة وقدرته على التعايش مع هذا النموذج الطموح للدولة في لبنان، الواقع في قلب خطوط التماس الكبرى في صراعات الإقليم المشتعل دائماً؟ وماذا عن الوظيفة الإقليمية للاقتصاد اللبناني في زمن التكتلات الكبرى والعمق الاقتصادي الذي تمثله سورية والعراق، بين حدود القدرة السياسية اللبنانية على الإجماع حوله، وحدود التساهل الأميركي والغربي والخليجي مع هذا الخيار؟ وماذا دائماً عن موقع «إسرائيل» وتطلعاتها نحو لبنان بعين الطمع بثرواته المائية والنفطية، وكيفية حماية سيادته من اعتداءاتها، وهل ثمة إمكانية لقيادة مشروع دولة حياد أو مواجهة بالإجماع اللبناني المنعقد حول عنوان التغيير؟ وفي قلب هذه الأسئلة والإشكاليات ماذا عن الطائفية، في الدولة والمجتمع، بصفتها الحاضر الأكبر في تفكيك أي وحدة وتعطيل أي إجماع، بما في ذلك الإجماع حول التغيير، وفتح الباب لكل التدخلات، وتغطية كل فساد، وحماية كل طغمة حاكمة؟
الأسئلة التي تواجه أي قائد سياسي أو يتطلع للعب دور سياسي تتصل بالمصداقية، قبل الذكاء والشراسة في الدفاع عن أفكاره، فهل يدرك هذا القائد أو ذاك المتطلع للقيادة، أن التغيير في لبنان والمرتبط بالقدرة على فك سلاسل محكمة، تقيمها البنية الطائفية للنظام في حماية أشكال السلطة وآليات انبثاقها، وتحيط بها التدخلات الأميركية الحاضرة في ملف الدين والمؤسسات الدولية المالية كراعٍ لهذه الحالة ومنظومة العقوبات الحاضرة في قلبها، وتقابلها فيتوات سياسية قوية داخلية وخارجية على أي انفتاح طبيعي على العمق الاقتصادي والنفطي الذي يمثله العراق وسورية، وفي المشهد دائماً حضور لا يمكن إنكاره لجهوزيّة عدوانيّة إسرائيليّة وإشكالية داخلية حول سلاح المقاومة، والجواب هو نعم إنه يدرك، لكنه يتفادى الخوض في هذا المهم، تلافياً لخسارة مقدار من الجاذبية أو الإجماع يحققهما الخطاب. وهو يدرك أن هذا الخطاب سيكون عاجزاً عن التقدم كوصفة عملية دون أن يكون مشفوعاً بالأجوبة على هذه الأسئلة وكيفية التعامل معها، وهي أسئلة الستينيات والسبعينيات ذاتها، ولكن بقوة أكبر وحضور أشد كثافة، ويكفي القول إن الجميع يدرك مثلا أن استعداد لبنان لقبول التوطين أو استعداد المقاومة لتحجيم دور سلاحها، أو استعداد لبنان للتهاون في ممارسة ســـيادته الكاملة على كل ثروته في النفط والغاز، عناصر تغيّر الكثـــير من المشـــهد المالي، وتقف في خلفية الكثير من عناصر التأزم، ولا يُخفـــيها التجاهل.
فالتجاهل بنسبة أقل حصل في الستينيات والسبعينيات، ومع جهوزية شعبية ونخبوية أشد قوة، ونستذكر كم كان شرساً القائد الطالبي أنور الفطايري وكم كان شرساً القائد الطالبي عصام خليفة، وكم كانا واثقين بقدرتهما على قيادة التغيير، ثم نستذكر كيف أن أحدهما صار قائداً شرساً خلال الحرب الأهلية بينما الآخر كان من ضحايا التهميش في زمن الحرب، وماذا عسانا نقول عن النتيجة غير أنها كانت بسبب هذا التجاهل الواعي والمدرك، بكلمتين، النتيجة كارثة موصوفة.
تسهيلاً للنقاش فلنفترض أن ما يدعو إليه الأستاذان من انتقال سلمي للسلطة قد حدث بقدرة قادر وصار أحدهما رئيساً للجمهورية والآخر رئيساً للحكومة، بمعزل عن العُرف الطائفي، وتشكلت حكومة بقدرة قادر برئاسة أحدهما، وقاما مع الحكومة بتشكيل محكمة خاصة لجرائم المال العام، فما هي القضايا التي يتوقعان أن تواجههما في اليوم الثاني للحكم قبل أن تؤتي أي من الآليات التي يتحدثان عنها اليوم، أياً من ثمارها، أليست أولاً الجواب عن سؤال حول مصير الصيغة الطائفية للنظام، وقبل الحديث عن الانتخابات المبكرة ستكون القضية هي قانون الانتخابات وموقع التمثيل الطائفي فيه، ووفقاً لأي قانون مهما كانت طبيعته، هل يتخيلان حذف القوى القائمة من المشهد النيابي المقبل، ثم ماذا بعد، ألن تتدفق عليهما المراسلات الدبلوماسية والمالية من الخارج، لتسأل: ماذا عن سلاح المقاومة؟ وماذا عن خط ترسيم الحدود البحرية؟ وبالتوازي سيسأل آخرون، ماذا عن العلاقة بسورية والعراق، وهل سينهض اقتصاد دون الإجابة عن هذه الأسئلة، والاقتصاد في أكثر من نصفه بات معولماً تتداخل فيه السياسة ومحاورها بالتمويل والمؤسسات المالية، والخيار بين شروط قطب العولمة الأول وشروط السيادة لا مفرّ منه، وهل ستتماسك الكتلة التي تلتقي حول طروحاتهما اليوم على نوعية الأجوبة التي يقدمانها؟ وهل يضمنان أن لديهما الأجوبة نفسها أصلاً؟ ثم أليس التهرب من الجواب أو تأجيله ليس إلا هروباً إلى الوراء؟
للأسف غابـــت الأجــوبة عن هذه الأسئلة في مداخلتي الأستاذين شربل نحــاس وملحم خلف، فعندما نسمعهما نستذكر ضياع أحلام التغيــير في الستــينيات والسبعينيات، لأننا لا نزال نراوح في المنطــقة الرمادية ذاتها، منطـــقة الحلم الخائـــف من أجوبة واقعــية على أســئلة ملحّة، لأنها ستؤدي إلى فرز يخشاه وانقسام يتفاداه، أو لأنها تخفي أجوبة لا يمكن المجاهرة بها من الآن، لكن السياسة ليست مؤامرة بل فعل وعي معرفي قائم على الوضوح والمصداقية وتحالفات وخصومات تنبثق من هذا الوعي وهذه المصداقية، ولأن شجرة الحياة خضراء وكل نظرية تبقى رمادية، تبقى النظرية الرمادية توحي بالقدرة على الجمع حتى يتم الاصطدام بالواقع، فيظهر طيف الألوان الـــتي تخــفت تحــت الرمادي، ويتفرّق العشاق بتمزق دفهم، وقد وقع الأستاذان المحترمان في خطأ الهروب إلى الوراء، لأن الهـــروب إلى الأمــام من الأسئلة الملحّة في زمن الحضور الأمــيركي الذي أظهرته عملية تهريب العميل عامر الفاخـــوري، وزمـــن المقـــاومة الحاضرة لردع العـــدوان، وزمن إفـــلاس الصيــغة الطائفـــية للنظام، وزمن حضور حتمية الانفتاح اللبناني على العمق الاقتصادي الحقيقي الذي تمثله ســـورية والعراق، هــو هروب مستحيل، ونوستالجيا الزمــن الجميل تبـــقى جميلة، لكنها تبـــقى حلم ذات ليلة صيف مضى.
ناصر قنديل