الاحتباس يأخذنا للفوضى والانفجار أو التسويات؟
ناصر قنديل
– بعد ثلاثين عاماً من السياسات الاقتصادية والمالية القائمة على الريع، أي عدم الإنتاج والاكتفاء بأرباح دفتريّة تتناسل من الدين والفوائد المرتفعة، وسدّ الديون بديون وبفوائد أشد ارتفاعاً، وبعدما تخطينا حافة الهاوية وبلغنا الهاوية رسمياً، لم يعد هناك لدى الدولة مداخيل تغطي نفقاتها الفوضوية، ولم يعُد لدى البلد موارد بالعملات الصعبة تعادل مطلوباته للاستيراد المنفلت، ولم يعُد لدى مصرف لبنان أرانب يخرجها من الأكمام على طريقة الهندسات المالية لشراء المزيد من الوقت، ولم يعد لدى الدولة ومصرف لبنان معاً القدرة على طلب المزيد من الديون من الخارج والداخل، ولم يعُد لدى المصارف ما يكفي لتأمين الطلب على السيولة من المودعين كأصحاب حقوق مهددة بالضياع. وقعت الواقعة، فهرّب البعض من المصرفيين والسياسيين وأصحاب النفوذ أموالهم بالعملات الصعبة إلى الخارج، فتفاقم الجفاف المالي أكثر، وتسارع التدهور، وانفجر الشعب في حالة غضب. وهرب المسؤولون الذين رافقوا وترافقوا في مسارات الإفادة من الحكم والسياسات المالية من مواقع الحكم تاركين باب الفوضى والفراغ مشرعاً. وتصدّى فريق الغالبية النيابية برغم ما بين مكوناته من خلافات لمهمة منع الفراغ. وتشكلت حكومة الرئيس حسان دياب بشراكة هذا الفريق الموحّد قسراً، تحت عنوان مواجهة التحديات والإصلاح ومكافحة الفساد والنهوض بالبلد مجدداً، رغم ما يوجّه للعديد من مكوناته من اتهامات بالشراكة في مراحل الإفادة من عناوين المحاصصة السياسات المالية وفوضى الإنفاق وما فيها من فساد ومحسوبية.
– قبل انتهاء مهلة المئة يوم الأولى من عمر حكومة الرئيس دياب بعد نيلها الثقة، تبدو الصورة شديدة التعقيد. فالحكومة التي نجحت في مواجهة كورونا، لم تنجح في مواجهة ارتفاع الأسعار، وتأخّرت بإنجاز خطتها المالية والاقتصادية، لكنها وظفت نجاحها في مواجهة كورونا وما رافقه من تأييد شعبي، ليفتح رئيسها ملف مصرف لبنان، لما له من صلة بكل ملفات الخطة المالية والاقتصادية، من طريق التعامل مع حقوق المودعين، ودور المصارف، وسعر الصرف، وتقييم الاحتياط المالي اللازم بالعملات الصعبة للأمن الاقتصادي، وارتباط أي خطة بعناوينها وتطبيقاتها بتعاون عالي المستوى بين الحكومة ومصرف لبنان، تشكو الحكومة غيابه الكامل، كما جاء في صرخة رئيس الحكومة، وجاءت ردود الأفعال بسقوف عالية طائفية وسياسية، وحروب نيات استباقية إلغائية، بوجه رئيس الحكومة، مقابل استحسان شعبي عالٍ لمواقفه، وبات واضحاً أن هذا الاحتباس يضع البلاد أمام خيار للانفجار، عنوانه الفوضى الشاملة على خلفية استعار مناخ استقطاب طائفي ومذهبي يُعبَّر عنه بقطع الطرقات وإقفال المناطق، خصوصاً بعدما ثبت أن القوى التي خرجت لمواجهة رئيس الحكومة لا تزال تملك القدرة على زجّ الشارع في خطتها لتجميد أي خطوات إصلاحية تمسّ بمكتسباتها التي راكمتها على مدى السنوات الماضية، بما في ذلك أغلب شارع انتفاضة 17 تشرين الذي ظهر أن أغلب تشكيلاته موزّعة الولاءات الداخلية والخارجية والباقي منها هشة ومنقسمة على خطوط الانقسام السياسي والطائفي التقليدي، رغم كل الكلام العابر للطوائف، كما ثبت أن القوى المواجهة لرئيس الحكومة قادرة على استثمار الانقسامات الموروثة بين قوى الغالبية النيابية، وتوظيف الشكوك والظنون وعناصر الخلاف بين الرئاسات، ما يقلب الصورة من تماسك نسبي في صف الغالبية مقابل تضعضع شامل لصفوف معارضيها، إلى العكس.
– سنشهد المزيد من التصعيد، والمزيد من التشقق السياسي والطائفي، والمزيد من الصراخ السياسي، لكن الانفجار بلا سقف وبلا أفق، ويعرف أصحابه أن ليس هناك ميزان قوى مناسب لذهابهم للتصعيد إذا كانوا صادقين في ادعاءاتهم بأن هناك خطة لدى المقاومة، يتولون مواجهتها. إذن ليس للتصعيد أفق إذا كانت المقاومة تملك خطة مواجهة وتريد الذهاب بها كما يزعمون، إلى نهاياتها. وهم يعلمون أن الأمور لو كانت كذلك لكنا شهدنا تشاوراً استباقياً بين المقاومة وحلفائها ينتج تماسكاً حكومياً يسبق إعلان المواقف والخطط، ووحدة في شارع الغالبية النيابية ومكوناتها، وقرارات متسارعة تنفيذية على أكثر من صعيد في التعيينات المالية والأمنية والقضائية تحكم سيطرة الغالبية على مفاصل الدولة، وليس أسئلة يطرحها رئيس الحكومة على حاكم مصرف لبنان طالباً منه الخروج على اللبنانيين بأجوبة عليها، ولأن الأمور هي بحدود الاشتباك الذي حدّده رئيس الحكومة بعنوان قواعد جديدة في التعامل مع مصرف لبنان، ومع ملفات تهريب الأموال، وملفات الودائع الكبرى وأموال المصارف وأصحابها التي تراكمت بفعل الفوائد المرتفعة، فليدخلوا الموضوع مباشرة، ولا أحد من دعاة الحلول الجذرية يجب أن يتوهم في لبنان أن هناك مكاناً للحلول الثورية والمحاسبات التي تصل إلى نهاياتها، طالما الطائفية تحكم كل شيء وتتحكم بكل شيء وهي مفتوحة الأبواب ومشرعة الشبابيك على كل التدخلات الخارجية، وأن التسويات بالتالي ستبقى أعلى مردوداً وأقل كلفة من المواجهات العبثية، والباب مفتوح لتسوية تحدد قواعد المرحلة الجديدة مالياً تحتاج تفاهماً سياسياً جامعاً، يقرّر توزيع خسائر مرحلة كاملة من ثلاثة عقود بالتراضي، لأن التوزيع القسري بتحميلها لمن يجب أن يتحملها من الذين أثروا وراكموا الثورات بسببها وحدهم وأخذهم إلى المحاسبة، غير متاح، وبديل تحميلها للمجتمع بإقتطاعات غير منصفة من الودائع، او عبر ضرب الليرة لضرب قيمة الودائع والرواتب، أو عبر بيع موجودات الدولة وذهبها، خط أحمر وغير وارد وغير مقبول وغير مسموح، فليخرج أصحاب التصعيد والافتراضات الخرافية من هلوساتهم وليقولوا بالمباشر ماذا يريدون، ولتوضع العناوين الحقيقية على الطاولة للتفاوض، بعيداً عن أكاذيب من نوع سعي حزب الله للسيطرة مع حلفائه على الدولة، وعن بطولات وهميّة من نوع سنتصدى، وعن أكاذيب طائفية، من نوع استهداف مزعوم هنا وموهوم هناك.