أخيرة

حارس القدس… هيلاريون كبوجي

 آمنة بدر الدين الحلبي

 

حين يتجلى الإبداع بكلّ معانيه وصوره عند المخرج باسل الخطيب، يُبيح بصمته خفايا الأرواح المستيقظة السائرة في الفضاء العلوي، لينسلَّ عمله الفني من بين همس الفكر الحضاري ويتألق عطاءً مقاومًا، ويشرق نوراً من كل مفاصله الوطنية، ويثير بعوالمه نفوس الحالمين للسيْر على خطى المقاومين، ويجمع بين جنحي الكرى أحلام الضعفاء وتشبثهم بأرضهم المقدّسة، وديارهم التي تعجُّ حباً وإصراراً، وإرادةً وصموداً، بوجه الظلم والطغيان.

هو الإبداع الذي ناضل من أجله المقاوم باسل الخطيب على مدى سنين من عمره الفني الطويل، لينثر عطر الصمود والتصدي في كل أرجاء الوطن، ويعلن الانتماء للأرض، والتضحية من أجلها مهما بلغت الأثمان، وتنمية الحس الوطني على امتداد مساحة بلاد الشام، والعالم العربي أجمع.

بين طيات أعمال المخرج باسل الخطيب تنتشي روحُ المقاومةِ ويشرقُ بريقُ الأملَ لاستعادة فلسطين العربية، ومن بين اختياراته يقطرُ الشوق للقدس العربية الذي يتجلى بقوة من مفاصل المسلسل التلفزيونيّ «حارس القدس» ويشتعل الحنين إلى تلك الأرض التي ناءت بكلكل الليالي المؤلمة، حين تناول سيرة المطران هيلاريون كبوجي منذ ولادته 1922 وحتى رحيله 2017.

«حارس القدس» أضاء على سيرة رجل دين عظيم منذ نعومة أحلامه بحث عن الحق، وكره الظلم، ودافع عن المقهورين والمسحوقين، كان قوياً يستطيع أن يلوي نعل الفرس بين يديه، وحنوناً يتألمُ لعصفورٍ داخلَ قفصه، ومعطاءً بلا حدود للفقراءِ والمحتاجين، وفي عينيه أطيافُ البحث عن الحق دون هوادة.

«حارس القدس» المطران كبوجي تنقل بين مدارس حلب وبين دير الشير في لبنان ومن ثمَّ تابع دراسته اللاهوتيّة في دير القديسة آن في القدس حتى سيْم كاهناً عام 1947 مراحل متعددة اتسمت بالمحبة والعطاء، بالقوة والتسامح، بالانتماء للأرض والدفاع عن الحق، وكان اسماً على مسمّى لأن كلمة «كبوجي»، تعني «الحارس» بالسريانيّة.

«حارس القدس» شاغل الدنيا ومالئ الناس في الشهر الفضيل، بعينيه استطاع أن يتلمس الخير من الشر، وبأفعاله سعى لإرضاء الله، لأن المحبة كانت تقطن في أعماق ذاته متجسّدة بالتضحية والعطاء، ولن يرضى عنها بديلاً، منذ طفولته وحتى شبابه وفي كهولته هذا ما أفصح عنه مخرج العمل المبدع باسل الخطيب بأسلوب فني مبدع وبآلية سلسة جميلة تتأرجح بين زمنين من عمر المطران كبوجي، وليس غريباً على المخرج باسل فقد قدم لنا أكثر من عمل بتلك الطريقة الجميلة التي تأخذنا برحلة للماضي البعيد، وتعيدنا للحاضر التليد، ولكمشة تراب من حلب الشهباء.

«حارس القدس» شدّنا بحواره الشيّق في الحديث عن الصراع بين الخير والشر، وعن مواجهتنا للشر لأنه من السهل أن نكون مؤمنين لكن الاختيار الحقيقي لإيماننا في مواجهة الشر والقضاء عليه.

والمحبة التي تجلت بأبهى صورها لله والوطن، حين قال: «نحن لا نحبّ وطننا فحسب، بعد الله نجلّه بالدماء». هو الكاتب حسن. م. يوسف بروعة قلمه قدم رحلة رجل دين مناضل لتبيان الحقيقة وإعلاء كلمة الحق لأن في الحقيقة حقٌ وفي الحقِّ جمال.

«حارس القدس» أخذنا برحلة حنين بين سورية وفلسطين، بين البطين والأذين، بين القلب والرئتين منذ الشارة الموسيقية التي صدحت بها النجمة ميادة بسيليس بصوتها الدافئ من كلمات الشاعر الفلسطيني يوسف الخطيب، رحمه الله، مع الاستشارة الدينية والتاريخية من الأب الياس زحلاوي لصنّاع المشروع.

أبتي

أظُنّ غَسُولَ هذه الأرض من دمنا

وأنَّ يداً تعتِّق للصباح صفاءَ أدمعنا

وأن غداً سيولدُ من مخاض غدٍ

فيرحم حزن هذا الكون في أحناءِ أضلعنا

أبتي

أظُنُّ لمحتُ شبه الوجد خلف شبيهة القضبانِ

من ألفينأذكر شبه هذا الليل

والسّيافوالسجان

أذكر شبه آنية وغانية

وجرّة عنبر سُفِحت

ومن دوني إليك مفازة التذكاروالنسيان!!!

أبتي..

«حارس القدس» عمل تاريخي درامي ضخم أظهر حياة رجل الدين بآرائه السديدة ومقاومته العنيدة للاحتلال الإسرائيلي، وحين أصبح مطراناً لكنيسة الروم الكاثوليك في القدس سنة 1965، عاهد نفسه أمام الله أن يكون خادماً لصالح الفلسطينيين والقضية الفلسطينية، ولم ينسَ سورية وقلبه المعلّق بحلب الشهباء وروحه التي ما فتئت تسأل عنها خلال الحرب البشعة. أدّى دوره بإجلال النجم «رشيد عساف» بوطنية مبهرة لا حدود لها وحس مقاوم مزروع في الروح ليقول كلمة حق أمام العالم، ويستنكر المؤامرة الدنيئة لإضعاف سورية وخرابها نظراً لموقعها الاستراتيجي وثوابتها القومية، واصفاً تلك الحرب بالخريف البائس لنشر الفوضى.

هو الحق نطق في أحداقه بهاتف جاء من حلب أشعرنا بحسه الإنساني أن حلب تحرّرت من عدو غاشم، قبل أن يأتيه الجواب عبر الأثير، فرح لا يضاهيه فرح متمنياً تحرير القدس من براثن عدو غاشم.

«حارس القدس» ما زال في حلقاته العشر الأولى أدى دوره في مرحلة الطفولة «ربيع جان» بعينين تقدحان ثورة على الظلم والطغيان، وقلب مشتعل بالمحبة رغم صغر سنه، وصفاء روحه، وأفقه الواسع.

ولن يقلّ الممثل «إيهاب شعبان» وطنية حين جسد دور كبوجي في مرحلة الشباب، رجل دين صلب، مقاومٌ وعنيد، لا يخاف في الحق لومة لائم، وقلب ينفح بالمحبة، وروح مشبعة بالتسامح، مدافع جسور عن الوطن، كلاهما لا ينفصلان مطلقاً في صيرورة الحق والإنسانية.

إيهاب شعبان نطقت عيناه قبل لسانه بالمقاومة، وتجلت روحه بالدفاع عن المقهورين، فلهجت روحه بالعمل الدؤوب تجاههم، وناضلت من أجلهم ـ حين يبكي الرجال يصمت العالم أمام نحيبهم، وتقشعر الأبدان أمام حسهم الإنساني ـ دموعه التي هطلت كالهتان على فراق أستاذه كانت ممزوجة بالمحبة، وروحه تكاد تسافر في روح أستاذه وقت الوداع الأخير.

الفنان إيهاب حين ودّع «أم عطا» بكلمة «يمّة» زرع الشجن في قلوبنا وغرس الوجد في أرواحنا وترك جزءاً منه في قلب «أم عطا» وفي عينيها الجميلتين وكأن البتول مريم عليها السلام ساكنة فيهما «آمال سعد الدين» دفعتنا لنلتصق بالشاشة، ونعيش حسها الوطني الذي صدح للعالم دون مقدمات، بروح تفوق الأبطال، وحس وطني مزروع في الفؤاد، وعينيين لا يفارقهما الحنين بدموع مثقلة بالحزن.

«حارس القدس» من إنتاج المؤسسة العامة للإنتاج التلفزيونيّ والإذاعيّ، أعلن أن الدراما السورية عادت لمجدها العظيم من بوابة الفكر الثقافي الفلسطيني السوري المقاوم العنيد. «المخرج باسل الخطيب» ابن الشاعر العظيم الراحل يوسف الخطيب، الذي بقي ينادي لأبناء الشمس تعالوا لكلمة سواء كي تستطع نوركم من شام الياسمين، بموقف سوري فلسطيني موحّد، بوجود كاتب مخضرم عاشق لوطنه سورية «حسن. م. يوسف» وفريق عمل لا يقلّ أهمية في الوطنية والإبداع.

وإلى مقال آخر مع حارس القدس..

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى