صعود نجم أوراسيا… اذهب غرباً أيها الشباب الصينيّ

إعداد وترجمة: ليلى زيدان عبد الخالق

في تحقيق سابق، سلّطنا فيه الأضواء على «درب الحرير الصيني»، رأينا كيف أنّ شبح الشيخوخة يطارد «العصر الأميركي الجديد»: احتمال تطوّر تجاري واستراتيجي مستقبلي بين بكين ـ موسكو ـ برلين. أُطلق عليه تسمية «BMB».

احتمالات تناقَش على محمل الجدّ، ووفق أعلى المستويات في بكين وموسكو، ومثيرة للاهتمام في برلين، نيو دلهي، وطهران. لكنها لم تُذكر في أروقة واشنطن أو مقرّات الناتو في بروكسل. إنه نجم اليوم والغد أسامة بن لادن الجديد: الخليفة ابراهيم، المعروف بِاسم أبو بكر البغدادي، بعيد المنال، الذي نصّب نفسه نبياً على رأس دولة جديدة، أصبح اسمها اختصاراً «ISIS/ISIL/IS»، سبّبت نوبات ضحك هستيرية في واشنطن وفي كل مكان من العالم.

على رغم حرب واشنطن العالمية على الإرهاب، فالصفائح التكتونية الأوراسية الجيوسياسية لا تزال تتقلّب باستمرار، ولن يوقف ذلك رفض القبول، النخب الأميركية بتراجع حدّة اللحظة الأحادية القطبية. فبالنسبة إليهم، إن إغلاق عهد طويل من طيف الهيمنة الكاملة، كما يحلو للبنتاغون تسميتها، أمر لا يطيقون حدوثه. وبعد كل شيء، يبقى الأهم لهذه الأمة العمل على السيطرة عسكرياً، ثقافياً، تكنولوجياً، وخارجياً، وعلى القليل من العقيدة الدينية. فالمبشرون المختلفون لا يُنادون بالمساواة، وأفضل ما يمكن أن يقوموا به تشكيل تحالف يضمّ أكثر من 40 بلداً، لمحاربة «ISIS/ISIL/IS» فضلاً عن التصفيق والتآمر والخبث، كمثل إرسال طائرة مقاتلة أو اثنتين باتّجاه السعودية والعراق.

الناتو، وعلى عكس بعض أعضائه، لن يعلن عن محاربة المتشدّدين. فهو لم يكلّف نفسه حتى عناء الأخذ بالاعتبار مواقف الاتحاد الأوروبي، أو السماح لروسيا بأن تعدّ نفسها «أوروبية»! أما الخليفة، فهو يؤكد أنه مبعوث أُرسل إلى الساحة العالمية، ما يضع الصين وروسيا في عين العاصفة العالمية.

كتب بيبي إسكوبار في كتابه الصادر حديثاًَ «إمبراطورية الفوضى»: إنه يومٌ لا بدّ أن يذكره التاريخ إلى أبد الآبدين. ففي هذا اليوم، وفي مدينة ييوو في مقاطعة تشجيانغ الصينية، والتي تبعد 300 كيلومتر جنوب شانغهاي، ترك أول قطار محمّل بـ 82 مستوعباً من البضائع المصدّرة التي تزن أكثر من ألف طن، تركت مستودعات ضخمة ليسلك طريقاً طويلة ومعقدة إلى مدريد تبعد 13.000 كيلومتراً.

إلى الغرب

وصل القطار في التاسع من كانون الأول، فأهلاً وسهلاً بكم على متن القطار «أوراسيا تشو ـ تشو» العابر للقارات، والذي سيعبر ـ بانتظام ـ الطريق الأطول في العالم لنقل البضائع، أي بما يزيد على 40 في المئة عن خطوط السكك الحديدية السيبيرية الأسطورية. ستخترق هذه الحمولة الصين من شرقها إلى غربها، لتمرّ بعدها في كازاخستان، روسيا، بيلاروسيا، بولندا، ألمانيا، فرنسا، وأخيراً إلى إسبانيا.

قد لا يكون لدى القارئ أدنى فكرة عن موقع ييوو، غير أن رجال الأعمال الذين تبحر تجارتهم عبر أوراسيا، خصوصاً من العالم العربي، لديهم صولات وجولات كثيرة في هذه المدينة، إذ تحدث «العجائب». فنحن نتحدّث عن أكبر مركز للتجارة يصدّر البضائع الصغيرة المستهلكة ـ بالجملة ـ بدءاً بالملابس وانتهاءً بالألعاب، إلى جميع أنحاء العالم.

تمثّل طريق ييوو ـ مدريد عبر أوراسيا بداية التطورات التي ستغيّر قواعد اللعبة. فهي ستشكل قناةً لوجستية طويلة بما لا يُقاس، وتتمتع فضلاً عن ذلك بالمصداقية. كما ستضفي النكهة الإنسانية على الجغرافيا السياسية، من خلال توطيد العلاقات الإنسانية صغار التجار بين البلدان التي تفصلها مساحات شاسعة. وهي بكلّ بساطة تضع اللّبنة الأولى على خطّ «طريق الحرير الجديدة الصينية» هذه المرة… التي ستكون وبلا شك مشروع القرن الجديد وأعظم قصة للتجارة العالمية خلال العقد المقبل.

اذهبوا غرباً أيها الشباب الصينيون. فيوماً ما، وإذا ما تحقق كلّ ذلك وفقاً لما خططتموه وبما يتماشى مع أحلام القادة الصينيين ، كلّ هذا سيصبح ملكهم. فالرحلة من الصين إلى أوروبا لن تستغرق أكثر من يومين، لا 21 يوماً كما هي الحال الآن. لا تزال 90 في المئة من البضائع تنتقل اليوم حول العالم عبر المحيطات، وهذا ما تسعى بكين إلى تغييره.

فجنينها لا يزال في طور الاكتمال والنموّ عي خط «طريق الحرير الجديدة»، وتمثل رحلتها الأولى هذه الاختراق الثوري الأوّل لتجارة الحاويات العابرة للقارات.

ومعها سلّة من الصفقات المستقبلية المتبادلة بما فيها انخفاض تكاليف النقل، التوسّع في البناء الصيني، الذي سيصل بطريق الحرير الصينية إلى المجد، فالشركات الصينية التي لا تتوقف عن التمدّد عبر آسيا الوسطى وأوروبا، ستسهّل نقل اليورانيوم والمعادن النادرة من آسيا الوسطى إلى أي مكان آخر على وجه المعمورة، فضلاً عن فتح عدد لا يُحصى من الأسواق الجديدة التي ستوظف الملايين من الناس.

لكن ماذا لو كانت الولايات المتحدة تعتزم التمحور نحو آسيا، وكان لدى الصين مخطط مماثل في المقابل؟ إنه الدوران من أوروبا عبر أوراسيا. أهو التحوّل نحو الشرق؟

إن السرعة التي يحدث فيها كلّ هذا هي حقاً مذهلة. فقد دشّن الرئيس الصيني زي جينبينغ حزام طريق الحرير الاقتصادية الجديدة في أستانا في كازاخستان في أيلول عام 2013. وبعد شهر واحد فقط، أعلن من العاصمة الإندونيسية جاكرتا أن القرن الحادي والعشرين هو طريق الحرير البحرية. تطلق الصين على هذه الاستراتيجية التخطيطية اسم «طريق واحدة وحزام واحد»، في الوقت الذي نجد فيه أنفسنا أمام متاهة حقيقية محيّرة من الأحزمة المتنوعة، وخطوط السكك الحديدية والممرات البحرية.

نحن نتحدث عن استراتيجية وطنية تهدف إلى رسم حقبة جديدة تحاكي طريق الحرير القديمة، التي زاوجت بين الحضارات الشرقية والغربية، وتخلق في الوقت عينه ـ أساساً لمجموعة واسعة من التعاون الاقتصادي لعموم المناطق الأوراسية. وقد وضعت القيادة الصينية 40 مليار دولار بتصرّف صندوق البنية التحتية بهدف تنمية البنوك، بناء الطرقات، خطوط السكك الحديدية عالية السرعة، خطوط أنابيب الطاقة في عدد من المقاطعات الصينية. وستتوسع هذه المساعدات عاجلاً أم آجلاً لتغطي مختلف المشاريع في جنوب آسيا، جنوب شرق آسيا، الشرق الأوسط، ومناطق في أوروبا. لكن آسيا الوسطى تبقى هي الهدف الرئيس الأكثر إلحاحاً. ستستثمر الشركات الصينية بقوّة، وتقدّم العطاءات للحصول على العقود في عددٍ من البلدان الواقعة على طول طرق الحرير المخطّط لها. فبعد ثلاثة عقود من التنمية التطويرية وبينما تتسارع الاستثمارات الأجنبية، حان الوقت كي يبدأ تدفق رأس المال الصيني إلى جيرانه. فهي قد وقعت عقوداً بقيمة 30 بليار دولار مع كازاخستنان وأخرى بـ15 بليار مع أوزبكستان. كما منحت تركمنستان 8 بلايين دولار على شكل قروض وبليار واحد لطاجكستان.

أما بالنسبة إلى كرغيزستان، فقد ارتقت علاقاتها مع الصين إلى المستوى الاستراتيجي. فالصين تعتبر الشريك التجاري الأول لهذه الدول جميعها، باستثناء أوزبكستان، وبعض دول الاتحاد السوفياتي السابق من جمهوريات اشتراكية في آسيا الوسطى لا تزال مقيّدة بالشبكة الروسية لخطوط أنابيب الطاقة. وبدأت الصين تحثّ الخطى هناك، من خلال خلق مشروع أنابيبها الخاص الذي يتضمن خط غاز جديد إلى تركمنستان فضلاً عن عدد من المشاريع الأخرى.

يبدو أن المنافسة بين المقاطعات الصينية للفوز بهذه المشاريع ستكون شرسة. وتسعى بكين إلى إعادة تكوين شينغيانغ على أنها المركز الرئيس لشبكتها الجديدة في أوراسيا. ففي أوائل تشرين الأول 2014، استضافت غواندونغ ـ «مصنع العالم» ـ المعرض الدولي الأول لطريق الحرير البحري والذي حضره ما لا يقلّ عن 42 دولة.

وبحماسة زائدة، يبيع الرئيس الصيني زي منزله في محافظة وشنشي التي شهدت على ولادة طريق الحرير الجديد في زيان، ومركز النقل في القرن الحادي والعشرين. فهو قد صنع طريقه الحريرية الجديدة هذه بين دول أخرى مثل طاجكستان، جزر المالديف، سيريلانكا، الهند، وأفغانستان. تماماً كما في طريق الحرير التاريخي من المفترض التفكير بصيغة الجمع. فلْنتخيلها طريقاً مستقبلية متفرّعة كثيرة المتاهات وطرقات السكك الحديدية وخطوط الأنابيب. أما الخط الرئيس فيتوجه إلى الذهاب عبر آسيا الوسطى، إيران، وتركيا، على أن تكون اسطنبول بمثابة التقاطع. فإيران كما آسيا الوسطى تحثّان الجهود لتعزيز العلاقات الخاصة بكلّ منهما.

خطٌ رئيس آخر سيشكل عقدةً أخرى من السكك الحديدية العابرة لسيبيريا مع موسكو، لتتقلّص المدّة الزمنية التي يستغرقها الانتقال من بكين إلى موسكو من ستة أيام ونصف إلى 33 ساعة فقط. وفي نهاية المطاف، يمكن أن تكون كلّ من روتردام، دويسبورغ، وبرلين بمثابة تقاطعات أو عُقد لهذه الطريق المستقبلية السريعة، مع احتمال كبير لاستقطاب حماسة أصحاب المشاريع الألمانية الكثيرة.

أما طريق الحرير البحرية، فستبدأ في مقاطعة غواندونغ لتسلك طريقها إلى مضيق ملقة، المحيط الهندي، القرن الإفريقي، البحر الأحمر والمتوسط، لتنتهي في فيينا الشاعرية. إنه خط ماركو بولو معكوساً.

ومن المتوقع أن تكتمل كل هذه المخططات مع حلول العام 2025، لتزوّد الصين المستقبلية بهذا النوع من «القوة الناعمة» التي تفتقر اليها الآن بشدة. وعندما أشاد الرئيس زي بأهمية تبلور مرحلة «كسر عنق الزجاجة» عبر آسيا، فهو كان أيضاً يعِد بائتمانات مستقبلية كثيرة للصينيين في مجموعة واسعة من البلدان.

أما الآن، ومع خلط استراتيجية طريق الحرير برفع مستوى التعاون مع دول البريكس البرازيل، روسيا، الهند، الصين، وجنوب أفريقيا ، وسط تعاون متسارع بين منظمة شانغهاي للتعاون SCO ، مع دور صيني أكثر تأثيراً على الأعضاء الـ 120 في حركة عدم الانحياز NAM ـ فلا عجب أن تتجه الأنظار العالمية الحالية نحو الجنوب، في الوقت الذي تخوض الولايات المتحدة حروبها اللانهائية، ويفرّ العالم بأكمله منها نحو الشرق.

بنوك جديدة وأحلام جديدة

لا شك أن قمة التعاون الاقتصادي لآسيا والمحيط الهادئ APEC التي حصلت مؤخراً في بكين، هي قصة أخرى من قصص النجاح الصيني المذهل، لكن القصة الأكثر نجاحاً هي تلك التي لم يُبلّغ عنها في الولايات المتحدة. فقد تمّت الموافقة من قبل 22 دولة أسيوية على إنشاء البنك لاستثمارات البنية التحتية AIIB بعد سنة واحدة من تقديم الرئيس زي هذا الاقتراح. سيكون هذا البنك بمثابة بنك آخر، يوازي بنك البريكس للتنمية، والذي من شأنه المساعدة في تمويل المشاريع في مجالات الطاقة، الاتصالات السلكية واللاسلكية والنقل. وسيكون رأس مالها الأولي 50 مليار دولار والصين والهند من مساهميها الرئيسيين. ونظراً إلى الاستجابة الصينية ـ الهندية في بنك التنمية الآسيوي ADB الذي تأسس عام 1966 تحت رعاية البنك الدولي والذي تطلّع اليه دول العالم أجمع على أنه الحصان المطارد لواشنطن. وعندما أصرّت كلّ من الصين والهند على أن قروض البنك الجديد ستقوم على أسس من «العدالة، المساواة، والشفافية»، لم تكن تنوي أن تبرز إلى العلن تناقضاً صارخاً مع بنك التنمية الآسيوي. لكن على المستوى العلمي المحض، لن يتمكن بنك التنمية الآسيوي ADB من تمويل احتيجات البنية التحتية الآسيوية التي تطمح إليها القيادة الصينية ما سيستفيد منه حكماً بنك استثمارات البنية التحتية AIIB .

لكن ماذا لو أبقينا في البال أنّ الصين هي الآن الشريك الرئيس الأول لكلّ من الهند، الباكستان، وبنغلادش. وتحتلّ المركز الثاني في سيريلانكا والنيبال. وتعود لتحتلّ المرتبة الأولى في كل الدول أعضاء منظمة دول جنوب شرق آسيا ASEAN ، على رغم أنّ الصين حظيت مؤخراً بتغطية إعلامية حول النزاعات على المياه الغنية في مجال الطاقة في المنطقة. ونحن هنا بصدد التعرّض للحلم التنافسي لدى أكثر من 600 مليون شخص في جنوب شرق آسيا، ومليار و300 مليون آخر في الصين، ومليار ونصف في شبه القارة الهندية. ثلاثة فقط من أعضاء منظمة آيبك APECـ باستثناء الولايات المتحدة ـ لم يصوّتوا على مشروع القانون الجديد: اليابان، كوريا الجنوبية وأستراليا، بعد أن خضعوا وبطبيعة الحال ـ إلى ضغط هائل من إدارة أوباما. وكان أن وقعت إندونيسيا بعد أيام قليلة. بينما تواجه أستراليا صعوبة كبيرة في مقاومة إغراء ما يسمى ـ هذه الأيام ـ «دبلوماسية يوان».

في الواقع، مهما كانت الغالبية الساحقة لسكان الدول الآسيوية تفكر في الصعود السلمي للصين، فهي قد خجلت بالفعل من إدارة ظهرها لهيمنة واشنطن والناتو وسيطرتهما التجارية عبر أوروبا والأطلسي والمحيط الهادئ.

عندما يحتضن التنين الدبّ

حظي الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بـ«آبيك» رائع. فبعد أن توصلت بلاده إلى توقيع اتفاقية هائلة للغاز الطبيعي مع الصين بقيمة 400 بليون دولار في أيار ـ حول قوة خط أنابيب سيبيري والتي بدأ إنشاؤها مطلع هذه السنة ـ وما لبثوا أن أضافوا إليها اتفاقية ثانية بقيمة 325 بليار دولار على خط أنابيب آلتاي الذي يتكوّن في سيبيريا الغربية.

هاتان الاتفاقيتان الكبيرتان لا تعنيان أن الصين ستعتمد على موسكو عندما يتعلّق الأمر بالطاقة، علماً أن التقديرات تشير إلى أنها ستوفّر حوالى 17 في المئة من احتياجاتها من الغاز الطبيعي بحلول عام 2020. لكن تشير هذه الصفقات إلى حيث تهبّ الرياح في قلب أوراسيا. على رغم أن البنوك الصينية لن يكون بمقدورها أن تعوّض المتضرّرين من واشنطن والاتحاد الأوروبي بسبب العقوبات المفروضة ضدّ روسيا، فإن التراجع البسيط في أسعار النفط، يوفر بعض الراحة في قروض الائتمان الصينية.

أما على الصعيد العسكري، فإن الصين وروسيا ملتزمتان الآن بتدريبات عسكرية واسعة ومشتركة، في الوقت الذي تستعدّ أنظمة الدفاع الصاروخي «إس ـ 400» إلى التوجه نحو بكين. إضافة إلى أن بوتين، وللمرة الأولى منذ انتهاء الحرب الباردة، يثير فكرة الأمن الجماعي الذي كان سائداً إبان الحقبة السوفياتية القديمة في آسيا باعتبارها ركيزة استراتيجية أساسية جديدة للشراكة الروسية ـ الصينية.

ويطلق الرئيس الصيني زي على هذه الشراكة اسم «شجرة العلاقات الصينية الروسية دائمة الخضرة»، أو ما يمكن أن نطلق عليه «تحوّل بوتين الاستراتيجي نحو الصين». وفي كلا الحالتين، لا يبدو أن واشنطن متحمسة لرؤية وتلمّس مواطن القوة لدى البلين: التميز الورسي في الفضاء، والدفاع الجوي والتكنولوجي، وتصنيع المعدّات الثقيلة، في مقابل التميّز الصيني الزراعي، الصناعات الخفيفة وتكنولوجيا المعلومات.

ومن الواضح للعيان، أن الأنابيب الروسية لا الأوراسية هي المسيطرة حالياً. فخط الأنابيب المرتقب من أستانا الذي سيجلب المزيد من الغاز الطبيعي الروسي إلى أوروبا، سيضمن ـ في نهاية المطاف ـ تكاملاً أعظم للطاقة من تركيا وروسيا إلى أوراسيا الجديدة.

دروب الصين الحريرية لاجتماعات الولائم

وبالعودة إلى التقرير الذي نشرته «البناء» في الثامن عشر من تشرين الاول الماضي، رأينا أن نعيد نشر بعضاً منه، نظراً إلى الخدمة التي تؤدّيها هذه الإعادة للقارئ.

يقول بيبي إسكوبار: تتشابه لعبة الصين في القوة الجيوسياسية في أوراسيا، قليلاً مع التاريخ الحديث. فقد ولّت تلك الأيام التي أصرّ فيها «الربّان الصغير» دنغ زيابونغ على أن بلاده «لا تزال موجودة على الساحة العالمية». وسيختلف الأمر حكماً عندما يتعلق بعدم التوافق والصراعات الاستراتيجية المتضاربة في إدارة المناطق الساخنة في البلاد: تايوان، هونغ كونغ، التيبت، شينغيانغ، وبحر الصين الجنوبي، والمنافسَين القويين الهند واليابان، والمشكلات مع الحلفاء كما في كوريا الشمالية والباكستان. والاضطرابات الشعبية التي تهيمن على بعض أطراف بكين والتي قد تنمو إلى مستويات حارقة.

وتبقى الأولوية الأهم في البلاد تنفيذ إصلاحات الرئيس زي الاقتصادية، والعمل على زيادة الشفافية ومحاربة الفساد داخل الحزب الشيوعي الحاكم. أما الأولوية الثانية فتنحصر في مدى القدرة على الإحاطة التدريجية بـ«محورية» مخطّطات البنتاغون للمنطقة ـ من خلال تراكم قوة بحرية زرقاء، غواصات نووية، وقوة جوية متطورة تكنولوجياً ـ مع الحرص على ألّا يبدو كل هذا وكأنه يشكل تهديداً صينياً للقوّة الأميركية.

وتسيطر البحرية الأميركية في الوقت عينه على الممرات البحرية العالمية، من منطلق الاستمرار بالتخطيط للسيطرة على دروب الحرير عبر أوراسيا. وينبغي أن تثبت النتيجة النهائية انتصاراً متكاملاً للبنية التحتية طرقات، سكك حديدية عالية السرعة، خطوط أنابيب، موانئ تصل الصين بأوروبا الغربية والبحر المتوسط، والإمبراطورية الرومانية القديمة، وذلك بكلّ السبل المُتاحة.

وفي رحلة معاكسة لتلك التي اتبعها ماركو بولو، وإعادة مزج خريطة «غوغل» العالمية، فإن درباً حريرية ستنطلق من العاصمة الإمبراطورية السابقة شيان إلى يورومكي في مقاطعة شينغيانغ، ثم منها إلى آسيا الوسطى، إيران، العراق والأناضول التركي، لتنتهي في البندقية. أما الدرب الحريرية الأخرى، فتبدأ من مقاطعة فوجيان وتذهب باتّجاه مضيق ملقا، المحيط الهندي، نيروبي في كينيا، وصولاً إلى البحر المتوسط عبر قناة السويس. وبِجمع هاتين الدربين معاً، تكون الصين قد حاكت لنفسها حزاماً اقتصادياً حريرياً متكاملاً.

تعتمد استراتيجية الصين على خلق شبكة من العلاقات المترابطة في مناطق خمس على الأقلّ: روسيا صلة الوصل بين آسيا وأوروبا ، آسيا الوسطى، جنوب غرب آسيا مع أدوار مهمة لإيران، العراق، سورية، السعودية وتركيا ، القوقاز، أوروبا الشرقية بما فيها بيلاروسيا، مولدافيا، وأوكرانيا بالاعتماد على نسبة الاستقرار فيها . ولن ننسى أفغانستان، باكستان والهند، التي قد تشكل درباً حريريةً أخرى.

تربط هذه الدرب الحريرية المُضافة الممرّ الاقتصادي ببنغلادش ـ الصين ـ الهند ـ ميانمار، بالاقتصاد الصيني الباكستاني، وقد توفّر للصين أفضلية الدخول إلى المحيط الهندي، مع التركيز على بناء بنية تحتية قوية تربط هذه المنطقة بالصين.

ترتبط رؤية الصين لأوراسيا الجديدة بفكرة النقل والمواصلات والتي عبّر عنها بوضوح الباحث وانغ جي سي في مركز الدراسات الدولية والاستراتيجية في جامعة بكين، في مقال نشر عام 2012 بالقول إن فكرة الزحف غرباً، تهدف إلى إعادة التوازن الجيو ـ استراتيجي للصين.

أفضل ما يمكن أن تقوم به الإدارة الأميركية حيال هذا العلاقات الأوراسية، احتواء مائيّ يمتدّ من المحيط الهندي إلى بحر الصين الجنوبي، مع شحذ الصراعات والتحالفات الاستراتيجية حول الصين من اليابان والهند. في الوقت الذي تبقي فيه الولايات المتحدة مهمة احتواء روسيا في أوروبا الشرقية منوطة بمهام حلف شمال الأطلسي.

ستارة حديدية مقابل دروب الحرير

إن «معاهدة الغاز لهذا القرن» التي وُقّعت في أيار الماضي بين الرئيس بوتين والرئيس زي، تضع الأسس المتينة لبناء شبكة أنابيب قوية في سيبيريا والتي لا تزال قيد الإنشاء في ياكوتسك. وسيُضخّ الغاز الطبيعي إلى الأسواق الصينية بكميات هائلة بموجب هذه الاتفاقية، التي لا تشكل سوى البداية للتحالف الاستراتيجي المرتكز على الطاقة بين البلدين.

ويشير رجال الأعمال والصناعيون الألمان في الوقت الحالي إلى واقع آخر: فبقدر ما تشق المنتجات الصينية طريقها إلى أوروبا عبر دروب الحرير الجديدة بقدر ما تقوم أوروبا بالمقابل ـ بالمثل. ومن المقرّر أن تصبح الصين أكبر شريك تجاري لألمانيا بحلول العام 2018، أي أنها ستتفوق على الولايات المتحدة وفرنسا في هذا المجال.

لكن ثمة عائقاً محتملاً لمثل هذه التطورات، مرحبٌ به من قبل واشنطن، وهو استشراف قيام حرب عالمية باردة ثانية، والتي بدأت مفاعيلها بالظهور في تمزيق الناتو وكذلك الاتحاد الأوروبي. وإذا أردنا أن ننظر بوضح أكثر إلى الصورة التي يقف فيها الاتحاد الأوروبي في هذه اللحظة سنرى: معسكراً معادياً لروسيا يتضمن بريطانيا، السويد، بولندا، رومانيا، ودول البلطيق، وكذلك إيطاليا والمجر من ناحية أخرى. بينما لا يمكن التنبؤ بموقف ألمانيا والتي يُنتظر أن تحسم أمرها، بين أن تبقى في المعسكر الغربي أو «الذهاب شرقاً». هنا تكمن أهمية أوكرانيا، فإذا ما اتُبع معها نموذج فنلندا مع الإبقاء على جزء كبير من منطقها خاضعة للحكم الذاتي، كما تفترض موسكو ـ وهو اقتراح ترفضه واشنطن بشدّة ـ فإن خيار «الذهاب شرقاً» سيبقى احتمالاً قائماً. وإذا لم يحصل ذلك فسيبقى مستقبل «BMB» ضبابياً.

لكن لا بدّ لنا من ذكر رؤية أخرى لا تزال تلمع في أفق مستقبل أوراسيا الاقتصادي. تحاول واشنطن فرض شراكة التجارة والاستثمار عبر الأطلسي «TTIP» في أوروبا، وشراكة مماثلة عبر المحيط الهادئ في آسيا. والهدف الواضح عرقلة صعود اقتصادات دول البركس كما الأسواق الناشئة الأخرى، في الوقت الذي يترسّخ فيه الاقتصاد الأميركي العالمي أكثر فأكثر.

هناك حقيقتان صارختان لوحظتا في موسكو وبكين وبرلين، تشيران إلى الجغرافيا السياسية المتشددة وراء هذه الاتفاقيات التجارية. محاولة الشراكة عبر المحيط الهادئ «TPP» إقصاء الصين، ومحاولة «TTIP» أو شراكة الاستثمار والتجارة عبر الأطلسي إقصاء روسيا. وفي رحلاتي الخاصة الأخيرة، كرّر لي دوماً نخبة المنتجين الزراعيين في إسبانيا وإيطاليا وفرنسا أن «TTIP» ليست سوى نسخة أخرى من حلف الناتو، والذي اصطلح الرئيس الصيني زي على أن يطلق عليه «النظام الذي عفا عليه الزمن».

هناك رفضٌ واضح لشراكة «TTIP» هذه من قبل عدد من الدول خصوصاً الدول الأوروبية الجنوبية الواقعة على البحر المتوسط ، كما نلحظ هذا الرفض من الدول الأسيوية خصوصاً اليابان وماليزيا لشراكة «TPP». ما يعطي الأمل للصين وروسيا في التمسك بمخطّطاتهما حول الدروب الحريرية كأسلوب جديد من التجارة يعبر قلب أوراسيا مروراً بالاتحاد الأوراسي، في الوقت الذي تراقب فيه ألمانيا ما يجري على الساحة الأوراسية بعين ثاقبة لا تنام.

ومع هذا، فإن برلين لم تظهر قلقاً شديداً على الدول الأخرى في الاتحاد الأوروبي لما عانته من أزمات ثلاث فترات من الركود على مدى خمس سنوات . وانطلاقاً من نظرة ازدرائية لكلّ من البنك المركزي الأوروبي، صندوق النقد الدولي، والمفوضية الأوروبية، فإن برلين تبقى متربعة على رأس الازدهار الأوروبي، وتشرئبّ بأعناقها بشغف متزايد للتطلّع نحو الشرق.

زارت المستشارة الألمانية آنخيلا ميركل بكين منذ ثلاثة شهور. وبالكاد علّق الإعلام على تسارع المشروع السياسي الذي من الممكن أن يكون فاتحة لإقامة سكك حديدية فائقة السرعة ـ غير منقطعة ـ بين بكين وبرلين. سيجذب هذا المشروع حال انتهائه اهتمام عشرات الدول على طول مساره من آسيا إلى أوروبا. ومروراً بموسكو، فمن المحتمل ان يصبح هذا الدرب الحريري كابوساً حقيقياً لواشنطن.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى