حول الهوية والأقليات والمواطنة
نظام مارديني
للمرة الأولى في التاريخ بدأنا نسمع الحديث عن المظالم التي تعرّضت وتتعرّض لها الجماعات الاثنية والمذهبية بهذا الزخم، في دول الهلال السوري الخصيب، وللمرة الأولى نجد الخطاب السياسي والشعبي في المناطق التي يغلب عليها الطابع «الكردي» أو السرياني أو العربي، يتداول فكرة «الإقليم»، بل إنّ بعض الجماعات الأكثر تشدّداً يستخدم في خطابه مصطلح «الشعب الكردي» أو «الشعب السرياني» كردّ فعل طبيعي للطرح العروبي الوهمي.
ففي كلّ حالة تحوّل يشهدها الهلال السوري الخصيب تبرز إلى الواجهة مصطلحات الهوية والأقليات والمواطنة، باعتبارها مرآةً ومعياراً ودليلاً لهذا التحوّل الحاصل في مجتمعنا. فالهوية لا تزال تواجه ديناميات مضادة وكابحة الآن ربما أكثر من أيّ وقت آخر، خصوصاً أنّ الهوية التي تتعيّن في الوعي والشعور والوجدان، لا يمكن أن تؤخذ كوصفة جاهزة، أو أنه يمكن لأية جماعة أقلية أن تصنع ما بدا لها من هوية، بل إنها نتاج وعي وإرادة، وهي بطريقة ما موقف من الذات وتاريخها، مثلما هي موقف من الآخر والمجتمع.
مما لا شك فيه أنه لم تترسّخ بعدُ في دول الهلال الخصيب الحديثة فكرة المواطنة على الصعيدين النظري والعملي، فهي تحتاج إلى جهد كبير على صعيد الدولة والحكم السلطة والمعارضة على حدّ سواء، نظراً إلى غياب ثقافة المواطنة وضعف الهياكل والتراكيب والمؤسسات الناظمة للاجتماع السياسي الحكومي وغير الحكومي، بما فيها فكرة الدولة المدنية وسياقاتها!
ففي غياب الهوية الواحدة للمجتمع تبرز الخصوصيات الثقافية كهويات دفاعية للمجموعات التي تخشى التهميش وطغيان الثقافات الأخرى داخل المجتمع. وكلما كانت الهوية قابلة للحركة والتحوّل تكون هوية المجتمع غير صافية تماماً، ومن الطبيعي هنا القول إنّ المبالغة في الحديث عن الخصوصيات الثقافية تؤدّي في كثير من الأحيان إلى أن تكون أدوات بيد السلطة لمنع انطلاق الحرية والديمقراطية والتعددية والحديث عن حقوق الإنسان. أيضاً هناك نقطة أساسية لمسألة خصوصية الثقافة، نعم هناك خصوصية ثقافية للجماعات لكنها لا تلغي الخصوصية الأتمّ، أي الهوية الواحدة، فهل تلغي الجداول النبع؟
وحين نقول الهوية، فإنما نتحدث عن التماثل والاختلاف داخل المجتمع الواحد. والتماثل لا يعني التطابق لأنّ ذلك يكون مستحيلاً في المحيط القومي والإنساني… إنه يعني وجود نسبة لافتة من المشتركات البيئية والإنسانية بين أفراد المجتمع الواحد أو حتى بين أفراد الجماعة الأقلية الواحدة، أو عدد من الجماعات الأقليات ، ولكن يبقى أنّ هناك عناصر توّحد المجتمع وتكوّن له شخصيته وهويته الواحدة التي تميّزه عن المجتمعات الأخرى، كالمجتمع الفرنسي، والمجتمع البريطاني. وهكذا الإيطالي، والإيراني، والخليجي، والمصري والمغاربي.
وبهذا المعنى لا يمكن الأفراد والجماعات التعاطي مع موقع الهوية كحالة مجرّدة عن البيئة الواحدة، وإنما كعلاقات بينية متداخلة، لا تتفاعل جدلياً بل عبر وحدة حياة داخل المجتمع الواحد، تشكل خريطة سوسيو ـ ثقافية شاملة.
وبهذه الرؤية تبرز الصورة الصارخة للمسألة الكردية التي هي برأيي قضية الجماعات عموماً في مجتمعنا، وهي مسألة ترتبط بالديمقراطية، وحيث تحتجب فيها حقوق الجماعات حين تتوارى حقوق الإنسان. ولسنا في حاجة إلى تأكيد أنّ التعددية والديمقراطية واحترام حقوق الإنسان هي أدوات ثقافة المواطنة، وثقافة المواطنة ليست على أساس الدين أو العنصر، ولأنها حتى ولو كان ذلك فإنها تفسّر بمذهبية دينية وعنصرية، لكن المواطنة على أساس حقوق الإنسان. أيّ إعلان الحقوق الأساسية للجماعات عموماً وما هو مسلوب منها خصوصاً، والدفاع عن هذه الحالات في المحاكم المختصة في دول الهلال السوري الخصيب، من جهة الحقوق المذكورة والتوعية في أوساط هذه الجماعات إلى وجود حقوق مجتمعية في المقابل لفئات أخرى من الشعب واجب احترامها في مناطق انتشارها الكثيف.
إنّ الحوار هو أحد أساليب التعرّف إلى الحقائق داخل المجتمع، بعيداً من الاتهامات بين الجماعات المتحاورة… بمعنى أنه لم يعد ممكناً التغاضي عن الجماعات الاثنية والمذهبية وخصوصياتها بذريعة أنّ ذلك يشكل خطراً على الأمن القومي.
إنّ كوننا عرباً أو غير عرب لا يقدم ولا يؤخر في كون هذه اللفظة أو تلك عربية أو غير عربية. يجب هنا أن ننتهي من المقاربات التي تتوكأ على الخالات والعمات ومصطلحات الأنساب وصِلات الرحم لننظر نظراً لغوياً وموضوعياً إلى الواقع، وهو ما شدّد عليه المفكر أنطون سعاده بالقول: «إنّ كل مجتمع يجب أن يكون له وسيلة أو وسائل، لغة أو لغات، لهجة أو لهجات يتخاطب بها أفراده ويتفاهمون ويتفاعل تفكيرهم وتزداد ثروتهم العلمية»، ويتابع سعاده: «إنّ اللغة وسيلة من وسائل قيام الاجتماع لا سبباً من أسبابه، إنها أمر حادث بالاجتماع في الأصل لا أن الاجتماع أمر حادث باللغة».