لا تشابه مع 1992 بل فقط ندفع الثمن…!
} أحمد بهجة*
كثرت في هذه الآونة الآراء والمواقف التي تشبّه المرحلة الحالية في لبنان بالمرحلة التي سبقت استقالة الرئيس الراحل عمر كرامي في أيار 1992، بعد الهبوط الكبير آنذاك في سعر صرف العملة الوطنية إزاء العملات الأجنبية وخصوصاً الدولار الأميركي.
التشبيه بالمطلق ليس صحيحاً، لكن لعلّ ما تقدّم هو وجه الشبه الوحيد بين تلك المرحلة وبين ما نعيشه اليوم. حيث نمرّ بمرحلة مشابهة من عدم الاستقرار النقدي وتدنّي سعر صرف العملة الوطنية بفعل فاعل، طبعاً مع مفاعيل هذا الأمر اليوم وفي 1992 على الوضع الاقتصادي في البلاد، والذي يزداد سوءاً لا سيما على صعيد أصحاب الدخل المحدود الذين يتوسّع ناديهم ليضمّ الكثير من الأغضاء الجدد.
ما هو مؤكد أنّ هناك في 1992 مَن تلاعب بأسعار الصرف حتى انهارت الليرة وتدنّت القدرة الشرائية لغالبية المواطنين بشكل دراماتيكي، مما جعل من السهل تحريك الشارع ضدّ الحكومة القائمة، والتي كانت قد حققت إنجازات وطنية مشهودة لا تزال مفاعيلها مستمرة إلى اليوم.
في أيام حكومة الوحدة الوطنية برئاسة الرئيس عمر كرامي، وهي الحكومة الثالثة في عهد الرئيس الراحل الياس الهراوي، أقرّ مجلس النواب في 1991 وثيقة الوفاق الوطني التي نتجت عن مؤتمر الطائف، فأصبحت جزءاً لا يتجزّأ من الدستور اللبناني، كما تمّ فتح المعابر بين كلّ المناطق اللبنانية، وحلّ الميليشيات التي سلّمت سلاحها إلى الجيش اللبناني الذي توحّد تحت قيادة العماد إميل لحود.
وحين جاء وقت التفرّغ لمعالجة الأوضاع الاقتصادية المتردّية نتيجة حرب دامت 15 سنة ودمّرت كلّ شيء تقريباً، أتى من وضع العصيّ في الدواليب، فتفاقمت الأمور أكثر فأكثر، فخرج الناس إلى الشوارع في تظاهرات تمّ خلالها قطع الطرق وحرق الدواليب بشكل كثيف جداً، ما دفع الرئيس عمر كرامي إلى إعلان استقالة الحكومة.
وكما يقول العارفون كان باستطاعة الرئيس كرامي الصمود ومواجهة أولئك المتلاعبين المعروفين، لا سيما من بعض المصارف الكبيرة وبدعم من أفرقاء أقوياء مالياً يريدون الوصول إلى السلطة، لكن الرئيس كرامي المعروف بأنه حسّاس جداً تجاه نبض الشارع فضّل تقديم الاستقالة على جعل الناس يدفعون من اللحم الحي ثمن المواجهات السياسية.
أتت حكومة الرئيس رشيد الصلح، وكانت مهمّتها الوحيدة إجراء الانتخابات النيابية التي حصلت بالفعل في صيف العام 1992.
بعد ذلك تغيّر المشهد السياسي في البلد بشكل كامل تقريباً، حيث وصل رجل الأعمال اللبناني ـ السعودي رفيق الحريري إلى سدة الرئاسة الثالثة من ضمن تسوية إقليمية ودولية، في إطار تهيئة الأرضية اللازمة لدخول لبنان عصر السلام المزعوم مع العدو “الإسرائيلي”، خاصة بعدما كان مسار مدريد قد انطلق في تشرين الأول 1991.
دار الزمان دورته، وجرى اغتيال رئيس الوزاء الصهيوني اسحق رابين عام 1995، فانتهى مسار مدريد، واستبدل بمسار سرّي منفرد أنتج في ما بعد اتفاق أوسلو… وهنا يمكن الاستفاضة في سرد الكثير من التفاصيل المتعلقة بما سُمّيَ “عملية السلام”، لكن موضوعنا هو عن لبنان ووضعه الاقتصادي الذي قيل إنّ وصول الرئيس رفيق الحريري إلى السلطة أطلق مسيرة الإعمار والإنماء التي كان يحتاجها بشدّة البلد الخارج من الحرب لإزالة ما خلفته من دمار وخراب في كلّ مكان.
بعد توقف “عملية السلام” لم يتغيّر السلوك القائمين على السلطة في لبنان آنذاك، ولم يراجعوا حساباتهم، رغم أنّ الكثيرين كانوا يرفعون الصوت مطالبين بذلك، لكن استمرّ النهج نفسه الذي قام على أساس الاستدانة ثم المزيد من الاستدانة فدخلنا في حلقة مفرغة لا نزال ندور فيها إلى اليوم.
لم يطل الأمر يومها حتى ظهرت جلية الحاجة إلى تعديل بعض الخطط، ولكن ليس في اتجاه آخر، أيّ نحو اقتصاد الإنتاج كما كان يطالب كثيرون، بل كان التعديل من ضمن المسار نفسه، فكان التوجّه للاستدانة بالعملات الأجنبية عام 1997، وهو ما تطلب معركة شرسة مع المعارضة في مجلس النواب للحصول على إذن لإصدار سندات خزينة بقيمة ملياري دولار بحجة إعادة هيكلة الدين لكن الحقيقة كانت أنه ديْن جديد أضيف إلى ما سبقه.
ثم أتت سلسلة مؤتمرات باريس 1 و 2 و 3 (2001 و 2002 و 2007) وصولاً إلى «باريس 4» أو «سيدر 1» عام 2017، وكلها كانت نتائجها المزيد من الاستدانة حتى انقطاع النفس، علماً أنّ حجم الدين العام في أواخر 1992 لم يتجاوز الـ 300 مليون دولار.
هنا أيضاً يمكن التوسّع والتفصيل، لكن الخلاصة التي نودّ الوصول إليها هي أنّ ما نعيشه اليوم من أزمات اقتصادية ومالية واجتماعية ومعيشية هو أننا ببساطة ندفع ثمن إسقاط حكومة الرئيس عمر كرامي عام 1992 وإدخال لبنان في مسار يمكن القول عنه إنه انتحاري…!
*خبير مالي واقتصادي